في
لبنان من يحتفي بأدمغته المنتشرة وإنجازاتها الحقيقية منها والوهمية، مثل
علاجات السرطان الأسبوعية التي يتحفنا بها إعلام التفوّق الجيني (والمصادف
أنه ثوريّ في أيامنا هذه). من الناحية الاقتصادية هناك من يرى أن هجرة
أدمغة لبنان هي دجاجته التي تبيض ذهباً، إلى أن ذهب الذهب بفضل حكمة حاكم
مصرف الوطن الأبدي. طاقة الانتشار مهمة في بلد فاشل مثل لبنان، لكن الأَولى
هو الحد من هذا الانتشار الوبائي. مع ذلك احتفل لبنان هذه السنة بمئة عامٍ
من الهجرة، (بالإذن من غابرييل غارسيا ماركيز، الذي استقبلت كولومبياه
والدَيَّ في هجرتهما الأولى والتي لحقتها هجرة ثانية وثالثة ورابعة). وباتت
تطاول الهجرة أخيراً فئات جديدة من لبنانيي المركز بعد أن وصلهم نهش هذا
الكيان الاستعماري لذاته، والذي ابتدأ في الأطراف يوم أُنشئ، ووصل اليوم
إلى طحاله ورئاته وبنكرياسه وأعضائه الحيوية الأخرى. يصادف أن الدماغ من
بين هذه الأعضاء الحيوية، وعندما يهاجر جسد اللبناني إلى ما وراء البحار
غالباً ما يصطحب دماغه معه، وإن كانت النوستالجيا تجعل المشتاقين للسودة
النية والمعاليق يتوهّمون غير ذلك.
لكن رغم هذه الهجرة، لا تنكفئ
الأوطان، وبخاصة أوطاننا، عن الإنجاب. إذ يشاع أن الأطفال يجلبون رزقتهم
(وأدمغة جديدة) معهم عند ولادتهم. وبما أن التاريخ يسير بمن حضر، تنشأ نخب
فكرية جديدة دائماً، حتى لو كان الزمن منحطّاً. وهؤلاء يصنعون ثقافة ورأياً
عاماً ويمهدون الأرض لمستقبل الأمة، وإن كانت صناعتهم رديئة.
أثارَ
تسريب بعض الوثائق لمشاريع مموّلة من صندوق الصراع والاستقرار والأمن
للمملكة المتحدة (حتى الساعة، على أمل أن تتحرّر اسكتلندا من عبء هذا
الالتحاق بلوردات لندن وأن تتوحّد إيرلندا قريباً) جدلاً بيزنطياً حول
المؤامرة والتخوين أصبح معتاداً في رأس بيروت وهلالها الخصيب بأدمغة النخب
الممتدة إلى فرن الشباك مروراً بسبيرز والجمّيزة وبدارو. لكن لا بدّ من
الإشارة إلى أن هذه المشاريع ليست سرية، وتقوم بها هذه السفارة وغيرها من
السفارات «على عينك يا تاجر»، وهذا بحد ذاته كارثة سيادية لأيّ وطن. لكن ما
كشفه هذا التسريب هو الطلبات الكاملة لفضّ العروض المتنافسة على مشاريع
قيمتها تصل إلى عشرات الملايين من الاسترليني الطازج سنوياً. والمفاجئ في
هذه العروض هو النسب الهائلة من المبالغ التي تذهب إلى المستشارين المحليين
لهذه المشاريع، والذين يكسب بعضهم في اليوم الواحد أكثر من جرّاحي أدمغة
أو من أدمغة مهندسين هاجرت وتصبّبت العرق في صحراء شبه الجزيرة العربية.
وتبدو المشاريع إصلاحية من العناوين التي تحملها، ما يمكّن المستشارين
المحليين من الادعاء أنهم متصالحون مع أهداف مشاريع تحتاج إليها مجتمعاتنا.
وهذه عيّنة من المشاريع: مشروع انخراط الشباب في السياسة (موازنته 1,2
مليون جنيه استرليني)، مشروع بناء السلام وتحقيق استقرار سريع من خلال
إدارة النفايات الصلبة (4,7 ملايين جنيه استرليني)، مشروع تعزيز الآليات
الديمقراطية من أجل الإصلاح والمحاسبة والحوار (1,2 مليون جنيه استرليني)،
مشروع تدعيم الاستقرار الاجتماعي من خلال التواصل الاستراتيجي (2,1 مليون
جنيه استرليني)، مشروع دعم الصمود المجتمعي للفلسطينيين في المخيمات (4,9
ملايين جنيه استرليني)، مشروع المشاركة النسائية في السياسة (1,2 مليون
جنيه استرليني)، مشروع دعم القيادات السياسية النسائية (نصف مليون جنيه
استرليني فقط). كما فرز الصندوق 1,4 مليون جنيه استرليني لأربع منظمات
مجتمع مدني محلية تُعنى بالإصلاح الديمقراطي ومتابعة حقوق الإنسان.
هنا،
قد تكون ناشطاً سياسياً ومن النخبة التي يعوّل عليها للصعود من الحضيض
وتتبنّى هذه الأفكار، إذ أنها لا تتعارض مع تفوّقك الأخلاقي والقيمي
المدّعى. لا بل يمكنك أن تعمل على هذا التغيير الثوري في وقت تكسب فيه
مدخولاً محترماً لن تناله في أي وظيفة أخرى محلياً أو حتى في الغربة. مت
بغيظك يا تشي غيفارا، كان بإمكانك أن تنتصر في الثورة وأنت تعمل مستشاراً
في حل النزاعات وبناء السلام على سلالم الارتقاء الطبقي.
لنسلّم لحظة
بحسن نية البريطانيين والأوروبيين عموماً. فهُم، بعكس الأميركيين، حقاً
يريدون الاستقرار والازدهار في لبنان، وطفح الكيل عندهم من التعامل مع
الطبقة السياسية الحاكمة الكاذبة والفاسدة والفاشلة، ولا يريدون انهياراً
ينتهي بآلاف اللاجئين على شواطئهم. لذا سيأتي بابا نويل محمّلاً بالأموال
ليوزعها على مشاريع محقّة وضرورية حدّدها لنا بحنكته ودهائه المتفوّق،
ويصطف الطامحون بالتغيير لحمل أكياس الكاش. فطبعاً نريد أن ينخرط الشباب في
السياسة، على أن تكون هذه السياسة كما عهدها لبنان خنوعاً وتسوّلاً. ومن
لا يريد مشاركة المرأة في السياسة؟ ألا تذكرون كم كانت سياسات ريّا الحسن
أفضل من سياسات السنيورة في المالية والمشنوق في الداخلية؟ وتصبح هذه
العناوين الأولوية والشغل الشاغل، نُمَكِّن ونتمكّن مادياً في آنٍ، ولا
خاسرين في هذه المعادلة.
الآن لنتصوّر أن أحدهم مَنَحكم ملايين
الاسترليني الخمسة التي خصّصها صندوق الاستقرار لأولوية معالجة النفايات
الصلبة. ما هي القضية التي كنتم ستختارونها كأولوية لتشغل الشاشات
والمنصات؟ شخصياً، كنت سأختار تأميم الجامعة الأميركية وألّا يتعدّى راتب
فضلو خوري ثمانية أضعاف راتب جنيناتي حرم الجامعة (طبعاً لن أدعو إلى طرده
كما فعل هو مع مئات الموظفين لأنني لست حثالة). كثيرون ممّن تقدّموا لخدمة
المشروع البريطاني (أو غيره) كانوا سيصطفون للترويج لهذه الأولوية، وهذه
الفرضية ليست من نسج الخيال، فعندما كانت القضايا التقدمية مربحة للنخب
البيروتية في أيام الاتحاد السوفياتي كان بينهم العديد ممن دعوا للاشتراكية
قبل التطبيل لرفيق الحريري والنيوليبرالية التي كان وصياً عليها في لبنان.
فهنا أدمغة التغيير السياسي لا تحدد أولوياتها للتغيير والتنمية، بل هي في
خدمة سوق التمويل الذي تسخى به في هذه الأيام صناديق الاستعمار. وبالتالي
يكون مقاولو هذه المشاريع حرفياً «عملاء استعمار». وبما أن كلمة عميل لا
تروق للبعض ولا نريد إزعاج أحد، يمكن استبدالها بأداة الاستعمار أو ذليل
الاستعمار أو babybotte الاستعمار، لا فرق.
الارتهان للعملة الأجنبية سرطان متغلغل في الأدمغة التي يُروَّج أنها طريق التغيير
الارتهان
للعملة الأجنبية سرطان متغلغل في الأدمغة التي يُروَّج لها على أنها طريق
التغيير. لكن في نهاية المطاف، وإن صدّق العملاء ومشغّلوهم ما تروّج له
أنفسهم، فإن الحقيقة في غير مكان. وهي حتماً ليست في رأس بيروت وملحقاتها.
أن تكوّن رأياً عاماً وثقافة في فقاعتك شيءٌ، أمّا أن تخلق ثقافة ثورية
للتغيير والتحرّر من الاستعمار وأن تفكّر بنفسك وتحدّد أولوياتك بنفسك وليس
حسب سوق التمويل، فذلك شيءٌ مختلفٌ كلياً. المفارقة المضحكة هي أن أحد
معايير صندوق الصراع والاستقرار والأمن في اختيار المستشارين والمقاولين
المحليين هو مردودية الأموال (Value for Money)، ومع ذلك تراهم ينفقون
الملايين رواتب على مظاهر سياسية وإعلامية رتيبة، لم تخلق حتى اليوم لا
حزباً ولا حركة ولا مُنتَجاً ثقافياً ولا حتّى عملاً فنياً مثل الخلق. في
أول درس برمجة تلقّنته في تسعينيات القرن الماضي، استخدم الأستاذ مصطلح
(GIGO) وهو تلخيص لـ Garbage In Garbage Out أي أنه إذا لقّمت الكمبيوتر
نفايات لن ينتج إلا نفايات (قد تكون صلبة). بمعنى آخر، الكمبيوتر بلا مخ
نقدي، تماماً كمن يتبع أولويات ملقّميه. في السياق ذاته هناك مثل أميركي
يقول لا يمكنك أن تصنع سلطة دجاج من براز الدجاج. من الكمبيوتر والدجاج
نعود إلى الإنسان، فكرة هجرة الأدمغة وتبنّي تعريف أكاديميا القرن التاسع
عشر للأدمغة، والتي كانت تعتبر أنّ قاطني الأبراج العاجية أفهم من سواهم،
ترسم حدوداً وهمية وقامعة وغير ضرورية لأفكارٍ نحتاج إليها في صراعنا على
جبهة متقدمة من انهيار منظومة مترهّلة بائدة. لدينا فرصة مواجهة انهيار غير
مسبوق لمنظومة حكمت على مدى أجيال وخلقت لنا كياناً لا يصلح إلّا للتبعية
أو الهجرة. هذه الفرصة التاريخية تتطلب أفكاراً وهذه الأفكار عادة تنتج عن
أدمغة. وهنا تصبح الأفكار الصادرة عن أدمغة غير ملوّثة بالمنظومة أهم من
غيرها ووحدها طريق الخلاص، وهذه الطريق قد لا تمرّ عبر نخب مدنية هي صنيعة
الاستعمار أصلاً.
المصدر:
http://syriasteps.net/index.php?d=137&id=185750