تمنينا على الرئيس بشار الأسد دعوة المعارضين الذين لم تتلوث أيديهم بالدماء , أو بالوحول , والذين لم يتبعثروا كما أكياس القمامة على باب هذا البلاط أو ذاك , للعودة الى بلادهم . بين هؤلاء مثقفون , وأكاديميون , وفنانون , ورجال أعمال , وصناعيون . أخطأوا في الرؤية , دون أن يدروا من , وما , وراء تلك الشعارات البراقة التي رفعت آنذاك حول الديمقراطية , والعدالة , والحرية .
ما حدث بعد ذلك أظهر الغاية من السيناريوات السوداء التي تم اعدادها لازالة الدولة السورية . التفكيك , أو الاحتواء , أو التدمير الاستراتيجي , والتاريخي , فيما كان هناك من يسعى لاقامة الكوندومينيوم التركي ـ الاسرائيلي لحكم سوريا , ودائماً تحت المظلة الأميركية .
الاجابة وردتني في اليوم نفسه . أبواب دمشق مفتوحة أمام كل من يرغب في العودة , دون المرور على غرف التحقيق , أو على أي تكشيرة تقشعر لها الأبدان , كما درجت على الترويج لذلك بعض وسائل الاعلام المبرمجة على توقيت واشنطن , أو على توقيت أورشليم .
ما يمكن تأكيده في هذا السياق أن خطوات هامة قد بوشر بتنفيذها ليس فقط لاعادة هيكلة المؤسسات الأمنية , وانما لاعادة تأهيلها أخلاقياً , ونفسياً , بالتخلي عن ثقافة التشبيح , وكذلك تقتياً ومهنياً , ليتسق ذلك مع المسؤوليات الهائلة الملقاة على عاتق تلك المؤسسات , أذا ما أخذت بالاعتبار الظروف الكارثية التي أحدثتها حرب مثلما شاركت فيها قوى عظمى وصغرى , شاركت فيها حثالة بشرية , خرجت للتو من تلك الايديولوجيات الرثة والصدئة .
منذ البداية , بدا جلياً أن ألف يد ويد تعبث بالدم السوري وبالأرض السورية . استخبارات البنتاغون أحصت 1200 فصيل مسلح , لكل مرجعيته الخارجية , وتمويله الخارجي . خليط سريالي بلغة السواطير , وبلغة الأنياب التي كما لو أنها أنياب الوحوش . ولنتصور أي سوريا أمامنا لو سقط النظام . غرنيكا سياسية , دون أن يكون بالامكان لملمة الأشلاء . المهم أن تتحول سوريا الى خراب , كما دعا النص التوراتي , وكما هي النظرة الاستراتيجية لاسرائيل التي طالما توجست من "ذئاب الشمال" .
رجب طيب اردوغان الذي كان يراهن على اعادة دمشق ولاية عثمانية , وتختال فيها خيوله , بعدما اطمأن الى استيلاء "الاخوان المسلمين" على مصر , حتى اذا سيطر على سوريا , تشكلت الكماشة التي تتيح له ادارة العالم العربي باسره . ولكن ليفاجأ بعد حين بسقوط النيوانكشارية التي استتبعت , تلقائياً , سقوط النيوعثمانية . بعد أكثر من عقد من الزمان , ها هو يمد يده الى بشار الأسد على اساس استعادة "الأخوة" بين الرجلين .
أشياء كثيرة أحدثت تغييراً دراماتيكياً في المشهد الدولي كما في المشهد الاقليمي . الأميركيون ضاعوا في أوكرانيا التي ان خسروا الحرب فيها خسروا أوروبا , وهي الأداة السحرية لمشروعهم الخاص بقيادة العالم . معلقون تحدثوا عن أميركا المستقبل . جزيرة منسية وراء المحيطات ...
الاسرائيليون , وبالرغم من كل ذلك الضجيج العسكري , أمام أزمة وجودية , كنتيجة منطقية للحرب المجنونة التي شنوها على غزة . رجال الادارة أبدوا ذهولهم حيال وديعتهم المقدسة في الشرق الأوسط , وقد أطلفت صيحات الاستغاثة منذ الأيام الأولى للحرب من أجل تزويدها بالأسلحة والذخائر , والاحداثيات ليتداخل الفشل العسكري مع الفشل الاستخباراتي , وعلى ذلك النحو الفضائحي .
لكنه الحصار الجهنمي على سوريا , وبذرائع تثير الذهول اذا ما لاحظنا أن الولايات المتحدة هي الدولة الأكثر انتهاكاً لـ"الحق في الحياة" بحسب الفرنسي ريجيس دوبريه . الذريعة الحقيقية هي الضغط على سوريا لعقد اتفاق سلام مع اسرائيل , ما يجعل هذه الأخيرة في "أمان مطلق" , كما قال الأميركي اليوت آبرامز .
العرب ماضون في رحلة العودة الى سوريا . ولكن ليس من الباب التركي , ولا من الباب الأردني , بعدما تحوّل الأردن الى غرفة عمليات أميركية ـ اسرائيلية لاضرام النار في الجنوب السوري , والى حد الاستعداد لغزو دمشق .
لا شك أن أهل النظام الذين يدركون مدى استغلال البعض للضائقة الاقتصادية , ليتغلغلوا , وبكل اشكال الفساد , في مفاصل الدولة استفادوا الكثير من التجارب المرة التي واجهوها على مدى أكثر من عقد من الزمان . ما المشكلة اذا ما فتحوا أبوابهم وفتحوا صدورهم لأصحاب الآراء الأخرى , والذين لم يقعوا في الاغراءات المكيافيلية التي وقع فيها الآخرون ؟
هذا قرار بشار الأسد . انه الوقت المثالي لاعادة اعمار سوريا لا بالحجارة فقط , وانما بالأدمغة النظيفة , وبالأيدي النظيفة ...