اتفقت الصين والبرازيل، على سبيل المثال، على إنشاء غرفة مقاصة مشتركة تسمح للدولتين بالتداول فيما بينهما باليوان الصيني دون تحويل العملات إلى دولار. وأعلن بنك إندونيسيا أنه سيقدم نظام دفع محلي ليحل محل نظامي Visa وMastercard، ما سيوفر استقلالية أكبر وعمولات أقل. في الوقت ذاته، تعمل روسيا وإيران على «إزالة الدولار» من تجارتهما. ومنذ وقت ليس ببعيد، أعلن وزير المالية السعودي محمد الجدعان، عن إمكانية بيع النفط في الخارج بعملة أي دولة كانت. وغيرها الكثير من الأمثلة التي لا حصر لها حول ابتعاد الدول عن الدولار. لهذا، كان من المنطقي أن يكثر في الصحافة الغربية ظهور مقالات تؤكد أن انهيار الدولار أمر لا مفر منه.
تقويض الدولار الأمريكي في الداخل والخارج
رسم خريج كلية لندن للاقتصاد
والعلوم السياسية، بريان باتريك بولجر، صورة قاتمة للدولار في مجلة
«ناشيونال إنترست»: مؤكداً أن واشنطن التي تحولت إلى «إله» عسكري واقتصادي،
«نشهد انهيارها أمام أعيننا». وكتب المحلل المقيم في لندن أنه لا العقوبات
ولا الحظر ولا تجميد الأصول أدت إلى تدمير روسيا. بدلاً من ذلك، اتخذت
السلطات الروسية تدابير لم تحمي الاقتصاد الروسي فحسب، بل أطلقت أيضاً
عملية لا رجعة فيها لإزالة الدولار بمساعدة الحلفاء، فمحاولة الغرب لحرق
الروبل جاءت بنتائج عكسية: يمكن لروسيا والصين الآن المساهمة أكبر في تحديد
أسعار الذهب والنفط، حيث «أجبرت تصرفات الغرب بقية العالم على تبني فكرة
العملات المدعومة بالسلع الأساسية. بالنسبة للدولار الأمريكي، الذي يعتمد
على الديون والثقة، سيعني هذا موته المؤكد».
بالتوازي مع ذلك، تنمو
التهديدات التي يتعرض لها الدولار كعملة عالمية لا من الخارج فقط بل ومن
الداخل: حيث نما الدين الوطني للولايات المتحدة كثيراً، لدرجة يستحيل معها
السيطرة عليه. واليوم، غدت مخاطر الركود التضخمي في الولايات المتحدة
متفلتة تماماً من عقالها. وإذا رفضت الدول الدائنة شراء سندات خزانة
الولايات المتحدة، فسوف يكون لزاماً على بنك الاحتياطي الفيدرالي أن يدير
المطبعة مراراً وتكراراً، ويعيد إنتاج الأزمة وتعقيدها من جديد وبعتبات
خطورة أعلى.
حتى داخل الولايات المتحدة، ثمة من يؤكد اليوم أن الضرر
الذي يلحقه بنك الاحتياطي الفيدرالي بالاقتصاد الأميركي من شأنه أن يمنع
النظام المالي من الانهيار لفترة من الوقت، لكنه لن يفيد الدولار. وكلما
طبعت المزيد من الأوراق «الخضراء» غير المدعومة بالبضائع، كلما جاء الوقت
الذي يتحول فيه الدولار إلى عملة إقليمية عادية، أو حتى إلى عملة وطنية ذات
استخدام محدود في تداول السلع الأساسية العالمية. كل هذا سيسبب مشكلة
اقتصادية هائلة للولايات المتحدة.
الجميع يدرك ضرورة القفز من مركب الدولار
أجبرت تصرفات روسيا وحلفائها
السلطات الأمريكية على التفكير بجدية في حقيقة أنه لن يكون من السهل التصرف
في جزء من الاحتياطيات الدولية الروسية المجمدة. وحذرت وزيرة الخزانة
الأمريكية، جانيت يلين، قائلة: «نريد حرمان روسيا من الإيرادات. لكننا
نحتاج أيضاً إلى النظر في التأثير المحتمل للعقوبات علينا وعلى شركائنا».
ليست الرغبة في العدالة هي التي تجبر كبار المسؤولين الغربيين على الإدلاء
بمثل هذه التصريحات، ولكن التهديد بفقدان المزيد من أصولهم في روسيا ودول
أخرى. حيث إن الطلب المتزايد على موارد الطاقة الروسية، والعدد المتزايد من
الدول المؤيدة لـ«بريكس»، والسلوك «المتمرد» الواضح للدول الأفريقية، التي
فُرض عليها سابقاً قبول كل ما يقوله الغرب برأس منحني، لا يمكن إلا أن
يزعج الولايات المتحدة والدول الدائرة في فلكها.
لنلقي نظرة فاحصة:
«تجرأت» جمهورية تشاد مثلاً على منع شركة النفط والغاز الأمريكية من بيع
أصولها للبريطانيين، ثم تم تأميمها بالكامل. فوق ذلك، حُظرت أنشطة الشركة
الأساسية في تشاد، وتم طرد العديد من موظفيها من البلاد في شكل يتقصد
الإساءة للشركة الغربية. قبل بضعة أشهر فقط، كان من المستحيل تخيل مثل هذا
«الإذلال» للأنجلو ساكسون المعتدين بأنفسهم. إذا كانت أفريقيا جريئة إلى
هذا الحد، فماذا يمكن القول عن الدول الآسيوية الأخرى الأقوى والأكثر
نفوذاً بما في ذلك الصين، التي يعتمد الدولار على مساهماتها؟
يبدو أن
دول الاتحاد الأوروبي التي تفرض العقوبات، تتوقف أيضاً بالتدريج عن الإيمان
بالقدرة المطلقة للدولار. حيث أعلن راديو RFI عن إتمام أول صفقة من نوعها
في البلاد من قبل شركة الطاقة الفرنسية Total Energies لتزويد الصين بالغاز
الطبيعي المسال باليوان الصيني.
فوق ذلك، يعتبر المحللون أن عشرات
الآلاف من الأطنان من الغاز الطبيعي المسال التي ستذهب من الإمارات إلى
الصين باليوان (تحت ستار الوقود الفرنسي)، على أنها محاولة لتقويض الدولار
الأمريكي باعتباره العملة الرئيسية في تجارة الطاقة. ورفضت شركة «توتال
إنرجيز» الفرنسية و«سينيوك» الصينية الكشف عن تفاصيل الصفقة. ذلك رغم أن
بورصة شنغهاي للنفط والغاز الطبيعي التي شاركت في الصفقة اكتفت بالتعليق
أن: «الاتفاق ساهم في دفع عملية التسعير متعدد العملات، والتسويات
والمدفوعات العابرة للحدود».
الزيارة التاريخية لتشي.. والدور المتصاعد لليوان
لا يزال يذكّر صحفيون أمريكيون
سلطات بلادهم بالزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الصيني، شي جين بينغ،
إلى الرياض في شهر كانون الثاني 2022، حيث عرض على دول الخليج استخدام
بورصة شنغهاي كمنصة لتسوية معاملات النفط والغاز باليوان، وكيف وافقت
البرازيل على اقتراح بكين بتحويل التجارة بين البلدين إلى العملات الوطنية.
يؤكد المحللون الغربيون أنه إذا كان اليوان يمثل في وقت سابق 2.7% فقط
من المعاملات في سوق النفط والغاز، بينما تجاوزت حصة الدولار 40%، فإن
الوضع يتغير الآن خلافاً لمصلحة الدولار. وإذا أخذنا في الاعتبار أن الهند
بدأت أيضاً في الابتعاد بجدية عن البترودولار، فإن الدولار ليس في أفضل
حالاته أبداً.
منذ شباط الماضي، كان رجال الأعمال الهنود يدفعون ثمن
معظم النفط الروسي بالدرهم الإماراتي. حيث تشتري مصافي النفط الهندية النفط
من البائعين في دبي (بالمناسبة، دبي هي مكان تأتي إليه المواد الخام من
أحد أقسام شركة لوك أويل الروسية).
في المقابل، يواصل الرئيس التنفيذي
لشركة توتال للطاقة، باتريك بويان، العمل في روسيا وذلك حسب قوله «بهدف
تزويد أوروبا بموارد الطاقة»، ويقوم بذلك «بناءً على طلب الحكومات
الأوروبية». أي أن النفط الروسي يتم تداوله بالعملة الصينية ليس فقط في
الصين بل في أوروبا أيضاً. وفي روسيا، وفقاً لوكالة بلومبيرغ، أصبح اليوان
العملة الأكثر تداولاً، وتفوق على الدولار في حجم التداول الشهري لأول مرة
في شهر شباط الماضي.
بدائل الدولار ودور الروبل الروسي في العملية
ثمّة قلق عام في الغرب من أن
روسيا تدعم التسويات باليوان مع دول آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا. إلى
جانب ذلك، بات بعض الخبراء الروس يتحدثون عن أن روسيا «التي تستبعد الدولار
لتحل اليوان مكانه، تصبح معتمدة على الصين أكثر»، مستندين إلى ازدياد حصة
اليوان في تسويات السلع الروسية مؤخراً من 0.5 إلى 16%. في المقابل، يردّ
محللون آخرون أن زيادة حجم اليوان المتداول لا تعني أن تفقد روسيا سيادتها
المالية.
قبل خمس سنوات، نظرت الحكومة الروسية في خطة للتخلص التدريجي
من الدولار في الاقتصاد، والتي تنصّ على انتقال سلس في التجارة الدولية إلى
الروبل والعملات الوطنية للدول الأخرى، ورفض التسويات بالدولار. وتراهن
الدولة على الروبل، وتحوله تدريجياً إلى العملة الأكثر قابلية للتحويل في
تسويات التجارة الروسية الخارجية. لكن وفقاً لتصريحات المسؤولين الروس، فإن
المهمة الرئيسية بالنسبة لروسيا في هذه العملية ليس إجراء استبدال
ميكانيكي للدولار، بل توسيع إمكانيات الروبل نفسه.
دفن نظام «بريتون وودز» للهيمنة المالية الغربية
يدعم الدور المهيمن للدولار
الالتزام بنظام «بريتون وودز» للتبادل بين الدول من قبل عدد كبير من
البلدان، وقد بدأ الاستعباد المالي للدول على نطاق واسع من خلال نظام
«بريتون وودز» هذا. بالمناسبة، لهذا الغرض تم إنشاء صندوق النقد الدولي،
الذي ينصّ ميثاقه مباشرة على هدف الحفاظ على هيمنة الدولار الأمريكي.
وإضعاف نظام «بريتون وودز» ممكن فقط إذا تخلت عنه عشرات الدول. تحقيقاً
لهذه الغاية، قررت منظمة شنغهاي للتعاون إنشاء نظامها الخاص للتبادل
الإلكتروني للمعلومات المالية والمدفوعات المصرفية.
بالتوازي مع ذلك، تم
الإعلان عن إنشاء عملة خاصة لدول مجموعة بريكس (البرازيل وروسيا والهند
والصين وجنوب إفريقيا)، وهي المجموعة التي توسع قدراتها ومستعدة لقبول
أعضاء جدد. وفوق ذلك، تستعد دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي لإنشاء سوق صرف
مشترك وبنية تحتية مستقلة للدفع من خلال تفاعل بين أنظمة بطاقات الدفع
الوطنية، وإنشاء شبكة من حسابات المراسلة بالعملات الوطنية وتبادل
المعلومات المالية دون استخدام نظام SWIFT الغربي. وتضم الدول التي تعرب عن
رغبتها في الانضمام إلى البنى والهياكل البديلة التي تؤسس لها روسيا
والصين كلاً من السعودية وتركيا وتايلاند ومصر وغيرها الكثير من الدول
الأخرى..
اعترافات غربية داخلية.. واستحقاق على عاتق خصوم واشنطن
أصدرت عضوة الكونجرس الجمهوري
الأمريكي، مارغوري غرين، بياناً مؤخراً مفاده أن تصرفات «دعاة الحرب» في
أوكرانيا يمكن أن تؤدي إلى انهيار الدولار، وسيواجه الأمريكيون «مشاكل
اقتصادية لم يسبق لها مثيل في التاريخ»، حيث «سيتم إلقاء اللوم عليهم ولن
تتعافى أمريكا أبداً».
ما تقوله غرين يجد تجلياته على الأرض في
الولايات المتحدة فعلياً، حيث تشهد على ذلك المشاكل في القطاع المصرفي
والدين العام الضخم للولايات المتحدة، والذي يبلغ أكثر من 31.12 تريليون
دولار. ورغم أن تمتع الدولار الأمريكي بوضع «سيد» العملات الاحتياطية
الأكثر نفوذاً في العالم يمنح الولايات المتحدة الفرصة لطباعة النقود
بحرية، إلا أن الدولار عملة غير مضمونة، ويمكن أن تصبح تهديداً للاقتصاد
الأمريكي في حالة حدوث انسحاب حاد من التداول مع استبداله بعملة أخرى أو
تخفيض قيمة الدولار.
كان العالم ينتظر «يوم القيامة» على الدولار لفترة
طويلة، ومع كل أزمة جديدة يقترب هذا اليوم أكثر. هل ستتمكن الولايات
المتحدة من تأخير انهيار عملتها هذه المرة أيضاً؟ الكرة في جانب أولئك
الذين يسعون إلى التخلي عن الدولار. حيث يعتمد تعزيز سيادة العملات الوطنية
بشكل مباشر على الموقف الثابت والإجراءات الصحيحة للسلطات المالية للدول
غير الراغبة بالخضوع للهيمنة الأمريكية.