سيرياستيبس :
يشبّه المواطنون قطاع الصحة بلوحة الموناليزا.. كل جزء منها رائع، لكن اللوحة كاملة توحي بعدم الجمال، فالمبالغ المرصودة ضمن الموازنة العامة للدولة تتجاوز 6000 مليار ليرة، وهناك تميز في تقديم الكثير من الخدمات بمستويات عالية الجودة، توفر على المرضى الكثير من التكاليف المادية، لكن وبعد سنوات الحرب الطويلة، والاستهداف الممنهج للبنى التحتية من قبل الإرهابيين، ظهرت الكثير من السلبيات في آليات عمل هذا القطاع، وبدأت الشكاوى لناحية سوء الخدمات، وعدم توفر المستلزمات، وعدم وضوح الدور وانتشار المحسوبيات.
الأمر الأكثر سلبية في قطاعنا الصحي هو استمرار إدارته وفقاً لعقلية ما قبل الحرب وزمن “البحبوحة” وعدم استخدام الأساليب الحديثة في إدارة المنشآت الطبية
لكن الأمر الأكثر سلبية في قطاعنا الصحي هو استمرار إدارته وفقاً لعقلية ما قبل الحرب، وزمن “البحبوحة”، وعدم استخدام الأساليب الحديثة في إدارة المنشآت الطبية، المتبعة عالمياً، ما أفقد هذا القطاع نسبة كبيرة من كفاءته، ما ضيّع مفهوم العدالة وتقديم الخدمة للأكثر احتياجاً، في سبيل تحقيق المساواة.
دمر الإرهاب 22 مشفى بشكل كامل، وهو ما يشكل نسبة 36% منها، إضافة إلى 24% من المراكز الصحية
الواقع
دمر الإرهاب 22 مشفى بشكل كامل، وهو ما يشكل نسبة 36% منها، إضافة إلى 24%
من المراكز الصحية التي كانت تقدم خدمات صحية أولية في معظم المناطق، ما
أحدث ضغطاً على المشافي بسبب اتجاه المرضى إلى من بقي يعمل منها، هذا الضغط
على الكوادر الطبية، وعلى التجهيزات.
ولدى النظر إلى ما تقدمه مرافقنا الصحية نجد أن هناك استمراراً في الالتزام
بتقديم الخدمات الصحية لجميع المواطنين، لاسيما في مجال الأمراض المزمنة،
وعلى سبيل المثال يوجد نصف مليون من مرضى الكلى، يحتاج كل منهم وسطياً 25
عملية غسيل كلية سنوياً، أما مرضى السرطان، والذين تكلف أدوية كل منهم ما
يقارب 150 مليون ليرة سنوياً، فقد بلغت قيمة الأدوية السرطانية المستوردة
700 مليار ليرة، حصة مشفى البيروني منها 270 مليار ليرة، وتمت 140 مراجعة
فيه وحده خلال العام الماضي، وتم صرف 75 ألف وصفة طبية.
بلغت قيمة الأدوية السرطانية المستوردة 700 مليار ليرة
كما تجرى عمليات جراحة القلب، وزراعة الكلية بشكل مجاني وهي التي تكلف
خارج سورية مبالغ طائلة تزيد على 50 ألف دولار، إذ أجريت خلال العام الماضي
ما يقارب 150 عملية زراعة كلية، وهو رقم يضاهي ما تقوم به المشافي الكبرى
على مستوى العالم.
الصعوبات
يجمع القائمون على القطاع الصحي على أن استمرار التعامل مع احتياجات المرضى
وفقاً للآلية الحالية سيفقد الميزات الكبيرة التي يحققها لمحتاجي الخدمات،
وأولى الصعوبات الموجودة ضمن هذا القطاع غياب التكامل بين الجهات المتخصصة
بالشأن الطبي، إذ تتبع مشاف مدنية لوزارة الصحة وأخرى لوزارة التعليم
العالي، هذا إضافة إلى الجمعيات الخيرية الصحية، وهذا ما يؤكد طرحاً قديماً
بضرورة وجود جهة مركزية واحدة تعنى بالقطاع الصحي، وإحدى التسميات التي
طرحت إنشاء مجلس طبي أعلى، ينسق بين مكونات القطاع، ويضبط الاحتياجات،
ويؤمن تقديم الخدمات، ويضمن عدم ازدواحية تقديم الخدمة للمريض في أكثر من
جهة عامة، ويحقق رقابة فعالة على المواد والمستودعات، وهذا يتكامل مع خطة
وزارة الصحة في إنشاء سجل صحي إلكتروني يحقق مفهوم الأتمتة في عملية الخدمة
الصحة.
فرض رسوم وضرائب على كل النشاطات المؤثرة في الصحة العامة، كمستوردات الدخان والمشروبات الكحولية، والصناعات الملوثة للبيئة
كما يعاني القطاع من هجرة الأطباء وعزوف الفنيين عن تشغيل التجهيزات
الحديثة بفاعلية، بسبب تدني الأجور والتعويضات، مقابل المغريات الضخمة التي
تقدمها أغلب دول العالم للكوادر الطبية السورية، كما أن الكثير من موجودات
القطاع الصحي تتعرض لأعطال بسبب سوء استخدامها وإهمال الفنيين لها، على
عكس ما يجري في القطاع الخاص، الذي يضمن كفاءة أجهزته عبر مشاركة كوادره
بنسب محددة من إيرادات التشغيل.
وهناك أمور قانونية وتشريعية تحتاج التطوير والتعديل، لاسيما موضوع الهيئات
الطبية التي فرغت من مضامينها، ما أدخلها في دوامة الروتين وتشتيت الجهود.
هذا إضافة إلى وجود معوقات قانونية في طريق استقبال الهبات المادية
والعينية من قبل المجتمع الأهلي بشكل مباشر من قبل المشافي العامة، رغم أنه
موجود في جميع دول العالم، وخاصة لدعم مرضى السرطان، وغيره من الأمراض
المزمنة.
هناك أمور قانونية وتشريعية تحتاج التطوير والتعديل، لاسيما موضوع الهيئات الطبية التي فرغت من مضامينها
حلول
عدد من الخبراء قدموا في أكثر من مناسبة حلولاً لضمان كفاءة القطاع
الطبي، تركز على استمرار الدولة في توجيهها بتقديم الخدمات الصحية بعدالة،
بعيداً عن آليات العمل السابقة، ومنها ضروة تأمين الإيرادات المادية
الكافية لتمويل هذا العب الثقيل الذي باتت تعانيه كبريات دول العالم، سواء
من خلال التشاركية مع القطاع الخاص، والسماح له باستثمار ما يعجز القطاع
العام عن تفعيله من مجوداته وتجهيزاته، واعتماد مبدأ التأمين الصحي الشامل،
فحتى الآن لا تتجاوز نسبة المؤمنين صحياً 5% من إجمالي عدد السكان، وهذا
يتطلب نشر ثقافة التأمين الصحي.
وكذلك يجب التنسيق مع المجتمع الأهلي الذي أثبت قدرته على أن يكون رديفاً
أساسياً لعمل الدولة خلال فترة الحرب، وجائحة كورونا، والزلزال المدمر في
شباط الماضي، وإيجاد الصيغ القانونية الملائمة لقبول الدعم والتبرعات،
وإزالة بعض المعوقات في استيراد الأجهزة الطبية والمستلزمات من قبل القطاع
الخاص، كما يتوجب فرض رسوم وضرائب على كل النشاطات المؤثرة في الصحة
العامة، كمستوردات الدخان والمشروبات الكحولية، والصناعات الملوثة للبيئة،
والسيارات، وتوجيهها مباشرة للخدمات الصحية، وإدخال الدراسة البيئية ضمن
متطلبات الترخيص للنشاطات الصناعية والزراعية وغيرها.
ربما يكون الاستثمار في تخفيف الأمراض هو الأكثر جدوى ضمن جملة الخيارات المتاحة، عبر تعزيز الأنماط الصحية في المجتمع
وهذا طبعاً ضمن اعتماد مفهوم مبدأ الجودة النوعية الشاملة في تشغيل
منشآتنا الطبية، بما يزيد من كفاءتها ويوقف الهدر ويغلق أبواب الفساد، وذلك
عبر أتمتة مختلف مراحل تقديم الخدمات الطبية، وصرف المواد من المستودعات
والمشافي.
لكن يجب قبل كل ذلك إيلاء الكوادر البشرية اهتماماً كبيراً، بدءاً من مقاعد
الدراسة في جامعاتنا، وتدريب الكوادر الفنية والتمريضية، وزيادة
الاختصاصات النوعية التي نعاني نقصاً حاداً فيها كالتخدير والأشعة..
والأمر المهم هو ضبط القطاع الصحي من خلال توحيد مرجعيته، باستخدام الوسائل التقنية الموجودة بين أيدينا، بما يحقق التكامل .
إلا أن الأولوية يجب أن تكون باعتبار أن الصحة استثمار وليست استهلاكاً،
فالدولة السورية تبنت تأمين الاحتياجات الصحية، والتي توصف بأنها غير
نهائية، في ظل نقص الموارد، وهذا يحتاج علماً نتبنى من خلاله آليات علمية
عملية، لتحديد الأولويات الواجب الاستثمار فيها، وربما يكون الاستثمار في
تخفيف الأمراض هو الأكثر جدوى ضمن جملة الخيارات المتاحة، عبر تعزيز
الأنماط الصحية في المجتمع.
تشرين