فالفقر المدقع يدفع غالبية السوريين اليوم إلى العمل اضطراراً في المهن الهامشية والقبول بكل مساوئها، بدءاً من قلة الأجور إلى ظروف العمل الصعبة، وليس انتهاءً بغياب الضمانات الاجتماعية وعدم وجود نظام عمل واضح أو عقود قانونية، كل ذلك مقابل دخلٍ متدنٍّ لا يتيح لهؤلاء حتى شراء السلع التي يعملون بها!
بين المر والأمر!
لم تكن «لمى» تدرك أن عملها في
ورشة للطبخ المنزلي سيصبح مصدر رزقها الوحيد لتعيل أسرتها، تتنهد قبل أن
تفشل في تزيين وجهها بابتسامة مصطنعة، فتنهمر الدموع من عينيها وهي تتابع
حديثها: «بشتهي آكل وطعمي ولادي من الأكل يلي بطبخه وببيعه، لك حتى طباخ
السم بيدوقه، بس أنا ما بقدر دوق اللحم والأكل يلي عم اشتغل فيه، وولادي
بشمو ريحة الأكل بس ما بيدوقوه، ببيع العالم كبة بلحمة، بس أنا وولادي
مناكل الكبة بدون لحمة!».
تعيش «لمى»، ومثلها الكثيرون من العاملين
(ذكوراً وإناثاً) في مجالات «الأعمال الهامشية» في تناقض صارخ وصراع داخلي
يومياً، بين وفرة السلع التي يبيعونها ويلمسونها بأيديهم، وعجزهم عن
شرائها، لكن رغم ذلك ما زالت كفة الحاجة التي تخيّرهم بين «المرّ والأمرّ»
هي الراجحة!
مو عاجبك الله معك!
«مو عاجبك الله معك» هي السيمفونية المعتادة التي يسمعها «مجد» كل يوم من صاحب متجر الملابس الذي يعمل به حين يطالبه بمرتب لائق!
يبين
«مجد» أن مهنة المحاسبة التي يعمل بها تعتبر من
المهن ذات الأجر المرتفع عالمياً، إلا أنها في سورية مخجلة ومعيبة، مشيراً
إلى أن شهادة الماجستير في المحاسبة التي يحملها لم تسعفه بتقاضي مرتب يزيد
عن 500 ألف ليرة شهرياً!
ويقول: «أمضي نهاري في حساب وعد النقود التي
تدخل الصندوق، لكن مرتبي لا يتيح لي شراء قطعة واحدة من الملابس المعروضة
في المتجر، وحين أطالب صاحب المتجر بزيادة يطالعني بعبارة: «امش واليوم
بجيب عشرة غيرك، وبأجر أقل!».
رواتبنا شحادة «ونحنا وشطارتنا!»
يوضح «عادل» الذي يعمل بمهنة
توصيل الطلبات لصالح إحدى الشركات الخاصة، أن نظام الأجور في شركته يعتمد
على «البراني»، أي ما يحصله من إكراميات من العملاء!
وتخصص الشركة
لعادل، وغيره من العاملين في اختصاصه نفسه، مرتباً شهرياً يبلغ 400 ألف
ليرة، يحرمه حتى من شراء أي من السلع التي يقوم بتوصيلها، فيما توجهه
الإدارة إلى طرق معينة للحصول على إكرامية إضافية من الزبائن «وهو
وشطارته!».
يرفض «عادل» هذه الأساليب تماماً لأنها «أساليب شحادة» بحسب وصفه!
ويتابع
الشاب الثلاثيني: «راتبي عبارة عن بخشيش، عم يستغلوا حاجتنا ويذلونا، وما
في رقيب ولا حسيب، بالمقابل بيفرضوا علينا أساليب معينة لنطلب إكرامية
إضافية من الزباين، ونشكيلهم من الغلاء وارتفاع الأسعار مشان يعطونا
زيادة!».
ندفع بيدٍ ولا نقبض بالأخرى!
عانى «وليد» من البطالة لسنوات،
رغم شهادة الإجازة في التاريخ التي يحملها، لذلك لم يتردد في القبول
بالعمل نادلاً في أحد مطاعم منطقة الصالحية في العاصمة، رغم المرتب
المتدني، الذي في أحسن أحواله لا يصل إلى سعر وجبة عشاء في هذا المطعم
المخصص للشريحة المخملية من الأثرياء!
ويتساءل في حديثه لـ «قاسيون» عن
العشوائية الطاغية على سوق العمل، فالعامل الذي يتقاضى مرتباً زهيداً في
هذه المهنة، دون أية مكاسب أو حقوق، وبصمت ورضا الحكومة، لا يتمكن من
التهرب لشهر واحد من الفواتير والرسوم التي تتراكم عليه!
ويؤكد: «ندفع
كل ما يتوجب علينا من فواتير، ونلتزم بما علينا من واجبات للحكومة ولرب
العمل، لكن بالمقابل لا يوجد أحد يحصل لنا حقوقنا!»
مهام إضافية... والمقابل «يعطيك العافية!»
«عدم وجود إطار قانوني لهذه الأعمال يبين الحقوق والواجبات ويضمنها هو ما يتيح لأرباب العمل استغلال العاملين فيها!».
هذا ما تؤكده «نور» التي تعمل موظفة استقبال في أحد المراكز الطبية المتخصصة بالعلاجات التجميلية.
لم
تجد «نور» مهرباً من تحمل عبء العديد من المهام، غير المرتبطة بمجال عملها
موظفةَ استقبال، فهي تشرف على مستودع المركز، وتقوم بمهمة مراقبة دوام
الموظفين أيضاً!
وتقول: «لا توجد عقود عمل قانونية، ولا وصف وظيفي لكل
اختصاص، ونحن محرومون من أبسط حقوقنا، فليس لدينا تأمين صحي ولا نظام
إجازات ولا تعويضات، ولا نشعر باستقرار في عملنا، حيث يمكن لصاحب العمل
إقالتنا وطردنا متى شاء، دون أي تعويض».
وتضيف: «راتبي يعادل سعر حقنة
(فيلر) واحدة تباع في المركز، ورغم ذلك فأنا مضطرة للقبول بالواقع، والقيام
بالعديد من المهام التي لا يفترض بي كموظفة استقبال القيام بها، وإلا
سأطرد، لذلك أقوم بها مجبرةً، وطبعاً دون أي تعويض مادي إضافي، فبرأي صاحب
المركز كلمة (يعطيكِ العافية) تكفي!».
كفّة الحاجة هي الراجحة!
على مدار السنوات المنصرمة،
ارتفعت معدلات البطالة في سورية إلى أرقام قياسية، بلغت بالمتوسط 35% بين
عامي 2013 و2020، بحسب بعض البيانات، وهي أعلى من ذلك بالواقع!
وقد شكلت
فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و34 عاماً 70% من العاطلين عن
العمل، وشهدت سنة 2015 ذروة هذه البطالة، إذ وصل معدلها حينذاك إلى 48,34%،
أي نصف القوة العاملة تقريباً!
تسببت هذه النسب العالية من البطالة
بتدمير وتشويه سوق العمل، الذي يعاني أساساً ما يعانيه من كوارث متراكمة
منذ عقود طويلة، دفعت بطالبي العمل إلى القبول بأية مهنة، ولو كانت بأجر
زهيد، مقابل الحصول على القوت اليومي الذي لا يحصّله معظمهم اليوم!
وتدفع
الحاجة، التي يعاني منها معظم السوريين اليوم إلى القبول بشروط العمل
المجحفة والالتزام بوظيفتين أو أكثر، واختبار الصراع يومياً بين وفرة السلع
في المهن التي يعملون بها، وعجزهم عن شرائها!
كما يتسبب ارتفاع العرض
في سوق العمل بقبول الباحثين عن وظيفة بالحد الأدنى من المردود المادي
والمعنوي، فليس هناك أسهل من إمكانية استبدال الموظف في المهن الهامشية، بل
وحتى غير الهامشية، فالاتفاق شفهي بين الموظف ورب العمل!
اغتراب عن العمل!
يعيش العاملون بالمهن الهامشية
(كموظفي التوصيل، ومندوبي المبيعات، والمحاسبين، العاملين في المطاعم
والمطابخ ومحلات الأطعمة، وموظفي متاجر الملابس والأحذية، وغيرهم الكثيرين)
حالة اغتراب عن أعمالهم، ولا ينالون التقدير المادي أو المعنوي المطلوب!
فالبائع
الذي لم يجرّب السلعة لا يستطيع وصفها بدقة وصدق للزبون، والموظف الذي
يعاني من استغلال رب العمل لن يشعر بالانتماء إلى عمله، ولن يتمكن بطبيعة
الحال من الاندماج في عمله، فيعاني من الشعور بالانفصال عن العمل، وتسيطر
عليه حالة من الملل وعدم الرضا، ويشعر بعدم الارتباط بالعمل وبالزملاء،
ويزيد الوضع سوءاً شعوره بالعجز عن تحسين وضعه أو تطوير مهاراته!
الحرمان سيد المشهد!
تشير التقديرات الأممية إلى أن
90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر منذ 2021، بينما يكشف تقرير حديث
لبرنامج الغذاء العالمي أن 70% من السوريين قد لا يتمكنون من توفير الطعام
لعائلاتهم في ظل الأوضاع المعيشية الراهنة!
فالإهمال الحكومي المتعمد
لسوق العمل - كغيره من القطاعات المفصلية الهامة في البلاد - هو السبب
الرئيسي للواقع المزري فيه، وهو ما يتيح لأرباب العمل استغلال العاملين
بشروط مجحفة، لا تؤمن لهم الحد الأدنى من حقوقهم!
وكالمعتاد، تسعى
السياسات الحكومية الفاشلة على مدار سنوات إلى التنصل من مسؤوليتها عن
تنظيم وضبط سوق العمل، فتفتح بذلك المجال لأرباب العمل لمزيد من الاستغلال
الجائر فيه، مع غياب المحاسبة والمساءلة، لتكرس الجور والاستغلال، ولتحرف
بذلك حقيقة أن سياساتها الفاشلة هي التي تعطي الضوء الأخضر لهؤلاء
المستغلين!
فقلة فرص العمل وتفشي البطالة هي نتيجة لغياب التخطيط
الحكومي الاستراتيجي لزيادة فرص العمل في الجهات والمؤسسات العامة،
ولسياسات تخفيض الإنفاق العام وسياسات تجميد الأجور، التي تؤدي إلى تقليص
العمالة في هذه الجهات و«تطفيشها» بدلاً من زيادتها، إضافة إلى تفاقم
الفساد الذي ينخر في جميع القطاعات، وإلى سياسات التهميش والإفقار والتجويع
الممنهج؛ ليبقى الحرمان سيد المشهد!
حرماننا من أبسط حقوقنا كمواطنين، وموظفين، وعمال، وحقوقنا كبشر!
ومن
المؤكد أن الاستمرار بهذه السياسات ستفرز المزيد من أنماط العمل
المشوّهة والمجحفة بالحقوق، التي ستؤدي بنا إلى مزيد من الانحدار في مستوى
المعيشة!
قاسيون