أضرار كثيرة انعكست على النمو البدني والمعرفي للأطفال، مما يؤثر على حياتهم وسلوكياتهم الاجتماعية وقدرتهم على التعلّم، وإنتاجيتهم ودخلهم لاحقاً، أي إنها كارثة أجيال نشأت وترعرعت وسط أزمات مستمرة، وأوضاع اقتصادية سيئة!
بعض التفاصيل الكارثية من الواقع!
زارت قاسيون عيادة أحد أطباء الأطفال في أحد الأحياء الشعبية في دمشق، والحوار كان حول سوء التغذية، أسبابه وآثاره ونتائجه!
وقد أوضح الطبيب لقاسيون أن سوء التغذية هو عدم حصول الطفل على حصته الغذائية المتوازنة الضرورية لاستمرار نموه وصحته!
وحسب
مشاهدات الطبيب من واقع المراجعات العيادية هناك 70٪ من الأطفال هم تحت
معدلات الطول والوزن الطبيعيين، في حين أن 90٪ من الأطفال معَّرضون لفقر
الدم لأن خضابهم في حدوده الدنيا!
كما بيّن الطبيب أن لسوء التغذية
أنواعاً تبدأ بما يسمى نقص التغذية (Undernutrition)، الذي يتمثل بعدم حصول
الطفل على الكميات الكافية من الطاقة والمغذيات نتيجة نقص العناصر
الغذائية الداخلة إلى جسمه، أو عدم الاستفادة منها نتيجة لسوء الامتصاص،
ويتضمن التقزم (انخفاض الطول بالنسبة للعمر)، والهزال (الوزن المنخفض
بالنسبة للطول)، ونقص الوزن (الوزن المنخفض بالنسبة للعمر)، والمعاناة من
نقص مستويات الفيتامينات والمعادن في الجسم، كما قد يؤدي سوء التغذية إلى
فقدان العضلات والدهون، وهذا لا يكون ظاهراً، خاصة عند الأطفال الذين
يعانون من السمنة أو الوزن الزائد!
النوع الثاني، وهو ما يعرف بنقص
التغذية الشديد، أو نقص طاقة البروتين (Macronutrient Undernutrition) وهو
نقص المغذّيات الشديد، مثل الكربوهيدرات، والبروتينات، والدهون، وهي
الوحدات الأساسية التي يعتمد عليها الجسم لإنتاج الطاقة!
لدينا أيضاً نقص التغذية الدقيقة (Micronutrient undernutrition) التي تحدث عند نقص الفيتامينات والمعادن.
وبحسب
الطبيب فقد يحدث نقص التغذية عند الطفل بدءاً من مرحلة الرضاعة الطبيعية،
نتيجة افتقار جسم الأم لبعض العناصر والفيتامينات، وما يتبعه من نقصٍ في
وجبات الحليب الاصطناعي الداعمة، بسبب كلفته الباهظة ولجوء العديد من
الأمهات إلى الحليب البقري الممدّد، رغم آثاره السلبية وما ينجم عنه من
مشكلات تحسسية وفقر الدم لدى الأطفال، ما يجعلهم ضحية لسوء التغذية أيضاً،
كل هذا يؤدي إلى ظهور بعض الأعراض، أبرزها نقص الوزن والطول ونقص المناعة!
ضعف القدرة الشرائية وعجز ربّ الأسرة!
ويضيف الطبيب: إن انخفاض القدرة
الشرائية، بل وانعدامها لمجمل الأسر السورية، حال دون إعطاء الطفل كفايته
من الغذاء المتوازن والضروري، بالتالي أصبحت كمية الوارد الغذائي لأطفالنا
قليلة، وخاصة الداعمة للنمو والصحة والمناعة!
فمع ارتفاع تكاليف المعيشة
وتدني الأجور عجز ربُّ الأسرة عن تأمين المواد الغذائية اللازمة لنمو
أطفاله وصحتهم، من بروتينات حيوانية ودهون صحية، خاصة مع غلاء أسعار اللحوم
الحمراء والبيضاء، مما دفع الأسرة إلى الاستغناء عنها، لكن أجسام أطفالنا
لا تستطيع الاستغناء عنها، إضافة إلى غلاء أسعار البيض والألبان والأجبان
والفواكه والخضروات، وكل هذه أغذية مهمة وعلى الطفل أن يتناولها باعتدال
وتوازن ليحصل على الفيتامينات والأملاح المعدنية، كذلك الدسم
والكربوهيدرات. وإن نقص أي عنصر من عناصر الهرم الغذائي له آثاره السلبية
على النمو الشكلي والطولي والوزني، وكذلك العقلي في كل مراحله اللاحقة!
مخاطر سوء التغذية!
عند سؤال الطبيب عن مضاعفات سوء
التغذية أوضح أن سوء التغذية يسبب النحافة الشديدة، وقصر القامة، كما
ويؤدي إلى نتائج سلبية على الصحة قد تكون شبه دائمة، كتوقف النمو والتقزّم،
وفي مثل هذه الحالات وبعد سن معين لا يكون هناك علاج، أي حتى لو تحسن غذاء
الطفل فإن نموه لن يستعاد أو يصل إلى المستوى الطبيعي، بالإضافة إلى مشاكل
الدماغ والتخلف العقلي!
كما أن سوء التغذية يزيد احتمال إصابة الأطفال بالعدوى والالتهابات الرئوية والملاريا والإسهال والحصبة!
وإن لم يتم الكشف عن الموضوع والتدخل العلاجي فسيؤدي إلى الوفاة، خاصة في الأعمار المبكرة!
لكن
المريض، وكما أوضح الطبيب، لا يزور العيادات الصحية إلا عندما يصل إلى
أعلى درجات المرض والتدهور، وبعد أن تفشل خطة الصيدلي والجار والقريب
العلاجية، وسبب ذلك هو الفقر، فشعبنا السوري شعب واعٍ صحياً، لكن عسر الحال
يحول دون ذلك!
اعترافات رسمية دونما حلول!
كشف رئيس شعبة الإسعاف
والعيادات والإقامة المؤقتة في مشفى الأطفال الجامعي، د. جابر محمود،
أخصائي في الهضم والتغذية، عبر موقع محلي بتاريخ 17/2/2024 عن ازدياد
حالات سوء التغذية وخاصة بين الأطفال، لافتاً إلى أنها ارتفعت 20% عن العام
الماضي، موضحاً أن السبب في ذلك هو الظروف الاقتصادية التي تلعب دوراً
كبيراً في ازدياد هذه الحالات!
وقد أعلنت وزارة الصحة بتاريخ 29/2/2024
نتائج المسح لمنهجية (سمارت) 2023 (الرقابة والتقييم القياسي للإغاثة
والظروف الانتقالية)، والتي أظهرت زيادة انتشار حالات سوء التغذية بمعدل 3
أضعاف مقارنة بعام 2019 - موعد آخر دراسة - حيث بلغت النسبة 4,8٪ في حين لم
تتجاوز 1,7٪ في عام 2019، بينما تضاعف معدل انتشار نقص الوزن ليغدو 8,1٪،
وبلغت نسبة التقزم 16,9٪، بينما غاب مؤشر فقر الدم واليود، أما عن نسبة
انتشار سوء التغذية بين النساء فقد بلغت 6,6٪!
وكشفت الدراسة أيضاً عن معدلات استهلاك الغذاء واستراتيجيات التأقلم التي بلغت 45,3٪ بدرجة «منخفض» و26,1٪ بدرجة «منخفض جداً»!
وحسب
تصريحات رئيسة دائرة التغذية في وزارة الصحة هلا داوود لجريدة الوطن
بتاريخ 3/3/2024، فقد رصدت الدراسة 8339 أسرة على مستوى سورية، ضمت 11296
امرأة بعمر الإنجاب، و7422 طفلاً!
وحسب تصريحات مديرة الرعاية الصحية في
وزارة الصحة رزان طرابيشي لجريدة الوطن بتاريخ 3/3/2024: «إن أسباب تراجع
الوضع التغذوي في سورية تعود إلى التضخم الاقتصادي العالمي، وفقدان سبل
العيش الأساسية ومصادر الدخل، وزيادة انتشار انعدام الأمن الغذائي وصعوبة
الوصول إلى الخدمات المعيشية الأساسية، مثل الصحة والمياه والصرف الصحي
والتعليم والتغذية، وخدمات الحماية الحيوية وسوء المأوى والظروف المعيشية».
وبعض
الأرقام الصادرة عن المنظمات الأممية تقول إن هناك 6 ملايين سوري يعاني من
انعدام الأمن الغذائي ويحارب الجوع والحرمان والفقر - 6 ملايين مواطن
يحتاجون إلى المساعدة الماسّة - وما يقارب 13,4 مليون سوري بحاجة إلى
المساعدة الإنسانية، أي ما يزيد عن ثلاثة أرباع الشعب السوري!
سورية وأجيال من الأطفال واليافعين ضحايا السياسات!
الأرقام الرسمية وشبه الرسمية المذكورة أعلاه تبين بوضوح حجم الكارثة التي يدفع ضريبتها السوريون، وخاصة أجيال الأطفال واليافعين!
وجوهر
المشكلة يكمن في السياساتالاقتصادية التي خلقت فجوة واسعة بين مستوى الدخل
ومتطلبات المعيشة، ومع انفلات الأسعار في الأسواق، وزيادة التضخم، مع تقليص
الدعم الاجتماعي وتخفيض الإنفاق العام، ورفع أسعار معظم السلع والخدمات
الأساسية وترديها، كل ذلك دفع الأسر المفقرة، أي الغالبية من السوريين، إلى
تقليص غذاء أفرادها إلى وجبة واحدة بسبب الفقر الشديد، وجبة يتيمة تفتقد
المواد الغذائية الضرورية، وهذا الأمر على المدى المتوسط والبعيد له تبعات
خطِرة كما هو مبين أعلاه، وستنتج عنه أجيال مشوهة ومريضة جسدياً وعقلياً!
فالمنحى
الخطِر الذي وصل إليه السوريون، فقراً وجوعاً ومرضاً، هو جزء من نتائج
السياسات الاقتصادية ، تُضاف إليها الكثير من النتائج
الأخرى المتمثلة بالموبقات والظواهر الاجتماعية الهدامة التي لا تقل خطراً،
وهذه الأخطار والمخاطر لا تمس بنتائجها الكارثية الملموسة حاضر السوريين
فقط، بل تطال مستقبلهم أيضاً .