سيرياستيبس
كتب بلال علي قاسم :
لطالما شكل الهدر خاصرة رخوة للاقتصاد في عزه، فكيف الحال في زمن الهشاشة،
ليشكل مع الفساد انهياراً للخواصر الرافعة والداعمة لعمود التنمية غير
المتوازن هذه الأيام. ومع أن “الهدر” في القطاع العام ومؤسساته يمثل العدو
الثاني بعد الفساد الذي ترتفع الأصوات منذ عقود لمحاربته بقوة الخطط
والسياسات الحكومية، فإن ما يشهده القطاع الخاص من أشكال التسيب والمبالغة
في استهلاك و”رفس” النعم والأرزاق، ورمي الموارد البشرية والإنتاجية، يعطي
المحفز الكبير لضرورة اتباع نهج جديد وانقلاب جذري على كل العادات
والممارسات التي جعلت منا بلداً لا يحسن استخدام وتوظيف موارده، ولا كيف
يحافظ عليها في أيام الرخاء والقلة.
تقدم بعض الأبحاث مؤشرات ونسب هدر في الطاقات والموارد تصل بين 35 إلى 40
بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي مرتفعة جداً وتعتبر من أعلى النسب
عالمياً، وفي ميدان الطاقة الكهربائية والمائية “ما يندي الجبين” لصنوف
البطر في الصرف المبالغ فيه ليس لزوم وحاجة العمل والإنتاج بل بشكل
اعتباطي، تصل قيمته في قطاع الكهرباء وحده إلى أكثر من ملياري دولار
سنوياً، جراء الاستخدام غير المشروع للتيار، ووجود محطات قديمة تحتاج
لعمليات صيانة ضخمة لكي تتمكن من العمل بكامل طاقتها، في وقت يصل هدر
المياه إلى نسبة فاقد تتجاوز 25 بالمئة من الإنتاج.
ومسلسل الهدر في القطاع الخاص كبير جداً لأنه يصنف ضمن خانة المال الشخصي
الذي لا يمكن مراقبته وضبطه باعتباره حرية شخصية للملكية الفردية المصانة
دستورياً، فما يشهد به العاملون والمسؤولون التنفيذيون لدى الشركات
والمعامل الخاصة خطير جداً لجهة حجوم وكتل وفواتير البذخ على البريستيج
والديكورات وأشكال الهدم والبناء المتكرر (فقط لأنه لم يعجب “المعلم”!) لها
الكثير من الفصول المؤرقة، والتي تشي بأن هذا المال الخاص مفتوح على كل ما
ليس له علاقة بالعامل البشري الذي يشعر بالأسى على معاملة الجدران
والديكورات بأفضل من العمال والموظفين – رغم أن عمال الخاص محسودون من قبل
القطاع العام، المأسوف على رواتبه ومعاشاته.
ففي منشأة خاصة لها طابع استثماري سياحي يتأسف عشرات العمال على أعمال
ومشاريع هدم وترحيل كل ستة أشهر لمنشأة كلفت بالمليارات وهي بالتصنيف
العقاري من الطراز خمس النجوم، فقط لأن بعض التفاصيل لم تناسب ذوق “المدام”
في آخر جولة لها مع معارف وصديقات الصالونات، وهنا قد لا يكون من حقنا
محاسبة مشروع خاص من هذا النوع وغيره، ولكن أليس الإنفاق والهدر هذا من
رصيد وطاقات وقدرات البلد، إن كان ملكاً عاماً أم خاصاً؟ وحري بالمكتنزين
والدسمين الذين لا يعرفون كيف يصرفون أموالهم الضخمة والعملاقة أن يتوجهون
لمشاريع وأعمال ومناشط تنموية إنتاجية ريعية تخدم المجتمع. وفي أحوال أخرى،
الإنفاق على الأعمال الخيرية والإنسانية التي تخدم البلد وأهل البلد في
هذه الظروف الخانقة.
في بلد محاصر ومعاقب تجارياً ومتأزم اقتصادياً ويعاني أبناءه معيشياً
واقعاً عصيباً، هناك فرصة لدعوة القطاع الخاص، شركات وأفراداً (شركاء
الحكومة إلى العمل) بهدف ترتيب الإجراءات المتخذة بحسب الأولوية، والمضي
قدماً في الابتكار للحد من الفاقد والمهدر من أجل استعادة وبناء نظم أفضل
وجاهزة للصمود، كل ذلك ونحن نعيش العديد من اللقاءات والفعاليات الاقتصادية
بمشاركة رجال الأعمال وغرف الصناعة والتجارة وممثلين عن الحكومة انخرطوا
في حوارات مفتوحة حول السياسات الاقتصادية وضرورة إيجاد مخارج للأزمات
المتزايدة، فمن يطالب بدور تنموي أكبر من مجرد مكلف ضريبي عليه أن يكون على
قدر المسؤولية الأخلاقية بحيث لا يفضل الحيطان على الإنسان في كل زمان
ومكان؟