سيرياستيبس :
ما بيربى الولد إلا ليفنى الجسد”، هذا ما قاله أهل زمان، فالآباء يفنون
حياتهم في سبيل تنشئة أطفالهم وإيصالهم إلى شطّ الأمان، ليكون بداية
انطلاقتهم نحو تأسيس حياتهم الخاصّة، ويكونوا فيما بعد عكّازة آبائهم في
كِبرهم، ولكن يبدو أن هذه المعادلة أصابها الخلل في مكان ما خلال السنوات
الأخيرة، حيث باتت نسبة كبيرة من الأبناء يتسابقون لزجّ آبائهم المسنين في
دور الرعاية ربّما للتخلّص من أعبائهم والالتفات إلى حياتهم التي باتت
بالنسبة لهم شيئاً مقدّساً، متناسين أن “كل ساقٍ سيُسقى بما سقى”!.
بركة البيت
“أبو جميل” الرجل التسعيني يروي كلُّ خطّ حفرته مراحل الحياة في تعابير
وجهه آلاماً ومعاناة وصعاباً تكبّدها كرُمى تنشئة أسرته التي بلغت أربعة
عشر فرداً بين الإناث والذكور، ويسكن هو وزوجته التي يكبرها بسنة في
منزلهما، بدأ حديثه ل بالقول: “الحياة عندي بدأت في الثمانين من
القرن الماضي، ومعها شعرت أنني لا أزال ذلك الشاب الذي خرج إلى نفسه في موج
البحر”، مردفاً قوله: أنا أرفض فكرة وضع كبار السنّ في دور الرعاية
وأستهجنها، ووصف ذلك بـ”الدار التي لم تلد”، متسائلاً: ألا يوجد رادع
أخلاقي للأبناء الذين يضعون كبارهم في دور كهذه؟.
أبو جميل، لديه ثلاثة أجيال من الأبناء والأحفاد، وحتى اليوم يتفقدونه
وزوجته طالبين الرضا والدعاء بالتوفيق باعتبارها درع حماية لهم لأنّها
نابعة من قلوبهم.
حديث أبو جميل ينسحب على مجتمعات كثيرة تعدّ المسنّ تاريخاً، وفي البيت
بركة ويجب احترامه وتقديره، أمّا في مجتمعنا وبوصفه تكافلي تكثر الثرثرات
معتبرة وضع الأولاد لكبيرهم في دار رعاية وصمة عار وعيباً بحقّ قيمنا
وعاداتنا، ولكن لا نستطيع أن ننكر أن الهجرة والتفكّك الأسري اللذين طالا
قسماً لا بأس به من الأسر كانا دافعاً قوياً للجوء المسنّ إلى دار رعاية
للبحث عن أنيس يمسح عن عاتقه قسوة العزلة وألم غياب الكفيل، في حين كانت
محطّة انتظار لكثيرين ممّن هُجّروا من بيوتهم التي نسفتها رياح الحرب
الهوجاء، وبعضهم بغية نيل الرعاية الطبية والإنسانية، وكذلك كانت تلك الدور
سبيلاً لبعضهم للتنعّم بجلسات استثنائية تبثّ في جسدهم الكهل الدفء بعد
صقيع البيوت الخاوية من أحبائهم.
كانت فكرة
كان إنشاء دار رعاية لكبار السن فكرة تدور في رأس سيدات جمعية الإسعاف
العام، وخرجت للنور بعد تبني القائد المؤسّس حافظ الأسد الفكرة، ومنحه
الجمعية أرضاً في منطقة المزّة لتنفيذ المشروع مع مساهمة مالية للبداية
فيه، وفق ما ذكرت شذا نصّار رئيسة جمعية الإسعاف العام (دار السعادة لرعاية
كبار السن)، مضيفة: إن المتبرعين من المتموّلين السوريين أكملوا تمويل
المشروع حتى افتُتح في عام ١٩٩٠ على يد السيدة الأولى عقيلة القائد المؤسّس
رحمها الله وأحسن مثواها.
تجربة ناجحة
تعدّ دار السعادة تجربة ناجحة، وفق ما ذكرت نصّار في معرض حديثها
لـ”البعث”، مبيّنة أن الدار أثبتت أنها صرح متفوّق على أمثاله في المنطقة،
فهو مشروع غير ربحي غايته تأمين العيش الكريم لكبير السن الذي ابتعدت عنه
عائلته لظروف طبيعية، والدار ترعى نحو ٧٣ مسنّاً ضمن عائلاتهم.
وحول استفسارات الكثيرين ممن حصدنا تعليقاتهم واستفساراتهم عن شروط قبول
النزيل في الدار، توضح نصّار أنه يجب أن يكون النزيل قد تجاوز الستين من
العمر، وأن يكون مقتدراً مالياً ليغطّي نفقات معيشته، وجسدياً حتى لا يحتاج
إلى مساعدة في قضاء حاجاته الشخصية، لافتة إلى وجود أقسام مجانية يقطن بها
عشرون بالمائة من النزلاء.
هروب من العزلة
الشعور بالوحدة دفع المسن إلى اختيار دار رعاية تبعد عنه شبح العزلة، حيث يجد نفسه بين أمثاله، فيكوّن الصداقات، ويحسّ بالأمان.
وحول ماهية التعليقات التي رصدناها على مواقع التواصل الاجتماعي، وجاءت
متضاربة بين مدح وتقدير وثناء لأداء القائمين على الدور وبين شاكٍ سوء
الخدمات من قلة طعام وسوء معاملة يلقاها النزلاء هناك، تقول نصّار: يعيش
النزلاء في نعيم، إذ تقدّم الدار لهم المسكن النظيف اللائق الآمن، والطعام
المدروس والملائم لأعمارهم ووضعهم الصحي، في مطعم جميل، كما تقدّم الرعاية
الطبية بإشراف طاقم طبي من طبيبات، وجهاز تمريض، إضافة إلى وجود مركز
للمعالجة الفيزيائية بإشراف طبيب مختص ومعالجين ذوي خبرة، كما تقدّم الدار
حفلات ترفيهية في كل المناسبات الوطنية والعالمية والأعياد والنشاطات
الثقافية في المكتبة التي يستخدمها النزلاء للمطالعة.. وهناك أيضاً جريدة
حائط كمنبر لتعبير النزلاء عن آرائهم، كما تؤمّن للمسنين في الدار وخارجها
نادياً يجمع أعضاءه مع النزلاء للاستمتاع بحديقته الجميلة، هو نادي
السعادة، (جنينتنا).
فردوس السعادة
وعن الدعم الحكومي للجمعية، قالت نصّار: في الظروف الحالية وزارة الشؤون
تبدي اهتماماً جدياً للمساعدة والدعم، ولكن مشكلات الجمعيات حالياً تشبه
مشكلات وظروف البلد بعد الأزمات التي مرّت بها.
وتطرّقت نصّار في سياق حديثها إلى أن جهود مجلس إدارة جمعية الإسعاف
العام (كلّنا متطوعات) هي التي تجمع التبرعات لسدّ العجز الهائل في ميزانية
دار السعادة والأيدي الرحيمة، كما أن الجمعية تسدّ العجز من ودائعها.
أمّا ما يخصّ الجديد الذي تعتزم الجمعية عمله، فقد قالت نصار: أقمنا
قسماً جديداً جميلاً وأنيقاً (فردوس السعادة)، كأهم الفنادق كي نغيّر
الفكرة التي تعمّ الناس في الشعور بالخجل من دار رعاية للمسنين، ليحلّ
محلّها إحساس بالفخر في كونه نزيلاً في دار السعادة، وهناك الكثير من
المشاريع التي نحاول تنفيذها لتطوير أعمال الجمعية.
مظلّة الشؤون
يتبع للجمعيات الخيرية التي تخضع لإشراف وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل
دور رعاية تعنى بالمسنين ويقوم على إدارتها مجالس إدارة يتمّ انتخابها أو
تعيينها من الوزارة، وفق ما قالت مديرة الشؤون الاجتماعية والعمل بدمشق
دالين فهد، وهي جمعية الإسعاف العام التي تتبع لها دار السعادة لرعاية
المسنين بقسميها الخاص والمجاني “الأيدي الرحيمة”، وجمعية القديس غريغوريوس
الأرثوذكسية لتربية الأيتام ورعاية (المسنين)، وجمعية دار الحنان لرعاية
المسنين والعجزة، وجمعية العودة الخيرية “دار الشهيد عز الدين القسام”
وهناك توجّه لافتتاح دار أخرى لرعاية المسنين.
وتعمل هذه الجمعيات، وفق ما ذكرت فهد، تحت مظلّة الوزارة وهي تسير بناء
على القوانين والأنظمة والتوجيهات والتعليمات الصادرة عنها، وتقوم الوزارة
بدورها بتسهيل عمل هذه الجمعيات حتى تتمكّن من إنجاز الهدف الذي أنشئت من
أجله وهو رعاية المسنين العجزة منهم والأصحاء من خلال الحصول على الموافقات
والتراخيص اللازمة لإنشاء دور المسنين، والتوسّط لدى الجهات الفنية
والمعنية للحصول على الموافقات اللازمة لتلبية الاحتياجات الخاصة بالدار
“صحة، ثقافة، كهرباء، ماء… الخ”، والإشراف على حسن سير العمل في دور
المسنين ومراقبة مدة حصول المسن على حقوقه وعلى الخدمات اللازمة بالشكل
الأمثل، وتشكيل لجان لتنفيذ زيارة دورية منها تفتيشية لضمان عدم المساس
بكرامة المسن أو حصول أي تقصير في رعايته من القائمين على الدار، ويخضع
العاملون في الدار لقانون العمل الصادر عن الوزارة رقم /17/ لعام 2010م.
تشاركية
مديرة الإعلام والعلاقات العامة في الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان
ربيعة الغزّاوي أوضحت دور الهيئة من خلال التشاركية مع الجمعيات الخيرية
في إعداد الدراسات أو الأبحاث، وفي حال تمّت الموافقة على الدراسة
واعتمادها يكونون ملزمين بالعمل بها.
بلد عجوز
في نهاية المطاف، لا ضير في الالتفات إلى كبار السن باعتبارهم تاريخنا،
ومَن لا ماضي له لا مستقبل له، خاصّة وأنّ أغلب الأبناء هاجروا وتركوا
آباءهم لوحش العزلة، وفي أحسن الأحوال تمّ إيداعهم بين حيطان دور المسنّين،
وهذا بدوره أدّى إلى زيادة أعداد المسنين في البلاد، وبالتالي لا بدّ من
قرع ناقوس الخطر خشية أن نسحب لقب “البلد العجوز” من القارّة الأوروبية
التي استقطبت جلّ شبابنا السوري في خطة استراتيجية لجعلها قارّة فتيّة، أما
منظمة الصحة العالمية فقد دعت إلى وضع خطط لمواجهة زيادة السكان وتلبية
احتياجاتهم التي أشارت إحصاءاتها إلى أنه بحلول عام 2050 سيشكّل المسنّون
نحو 22 بالمئة من سكان العالم، في حين حدّدت الأمم المتحدة في عام 1990 يوم
الأوّل من تشرين الأول ليكون يوماً عالمياً لكبار السن.
البعث