سيرياستيبس
تعيش سورية واحدة من أكثر الأزمات المائية قسوة في تاريخها الحديث، إذ انخفضت معدلات هطول الأمطار بشكل غير مسبوق خلال السنوات الأخيرة، فيما تراجعت مستويات الأنهار والسدود إلى الحدود الدنيا، حتى إن المخزون الاستراتيجي من المياه وصل إلى ما يصفه خبراء بـ"الخط الأحمر". في قرى الجزيرة السورية، يجفف العطش الحقول قبل أن تنضج محاصيلها. المزارعون الذين اعتادوا زراعة القمح والقطن يتركون أراضيهم بوراً، بعدما فشلت محاولاتهم في تأمين الري. يقول خالد الدهام، وهو مزارع من ريف الحسكة (شمال شرق) لـ"العربي الجديد"، إن "المياه لم تعد تكفي إلا للشرب، أما الأرض فباتت عطشى بلا جدوى".
النتيجة أن آلاف الهكتارات خرجت من دورة الإنتاج، ما يهدد الأمن الغذائي في بلد يعتمد أساساً على إنتاجه المحلي من القمح والخضار. في الجنوب السوري، تبدو الأزمة أكثر حدة على صعيد الريف والزراعة، حيث تعاني محافظات درعا والقنيطرة والسويداء من شح الموارد المائية. نهر اليرموك، الذي كان شريان حياة للزراعة في المنطقة، يشهد تراجعاً مستمراً في تدفقه بسبب انخفاض الأمطار واحتجاز المياه في السدود العلوية. يقول مصطفى الجاسم، مزارع من ريف درعا لـ"العربي الجديد"، إن "المياه لم تعد تكفي إلا لبعض الأراضي الصغيرة، وأصبحنا مضطرين إلى شراء صهاريج باهظة الثمن لسقي المحاصيل الأساسية. حتى هذه الجهود غالباً ما تفشل قبل موسم الحصاد". أما الجداول الموسمية والسدود الصغيرة في السويداء والقنيطرة، فتكاد تجف في معظم فصول الصيف، ما أجبر آلاف الأسر على تقليص مساحة الزراعة أو التخلي عنها تماماً. هذا الواقع دفع بعض السكان إلى النزوح نحو المدن بحثاً عن فرص عمل ومياه شرب، لتزداد الضغوط على الخدمات في المراكز الحضرية، وتصبح الأزمة المائية محركاً جديداً للهجرة الداخلية.
تراجع توليد الكهرباء الأزمة لم تضرب الزراعة وحدها، بل انعكست على قطاع الطاقة أيضاً، حيث تراجع توليد الكهرباء من السدود الكهرومائية مع انخفاض منسوب مياه نهر الفرات إلى مستويات قياسية. ساعات التقنين ازدادت، والمصانع التي تعتمد على الطاقة الكهربائية اضطرت إلى تقليص إنتاجها أو التوقف كلياً، ما فاقم البطالة والخسائر الاقتصادية. على المستوى المنزلي، تتجلى الأزمة يومياً في دمشق، حيث تقف الحاجة منيرة البني أمام خزان مياهها الفارغ. تقول بصوت متعب لـ"العربي الجديد": "المياه تأتي مرة كل ثلاثة أيام لساعتين فقط، وأحياناً لا تكفي لملء خزان صغير. اضطررت إلى شراء صهريج بقيمة 200 ألف ليرة سورية (20 دولاراً)، وهذا أكثر من ربع راتبي الشهري". الأثر الأخطر يتجلى في حركة النزوح الداخلية في ريف الرقة (شمال) الجنوبي، إذ اضطرت عائلة الحاج عبد الجبار الحسين إلى ترك قريتها بعد أن جفّت البئر الوحيدة فيها وتشققت الأرض من حول منزلهم.
يقول ابنه أحمد: "بقينا شهوراً نحاول أن نزرع ولو بضعة دونمات من القمح، لكن الأرض أصبحت قاسية كالحجر، رحلنا إلى المدينة بحثاً عن عمل وماء، وتركنا خلفنا البيت والذكريات". المدير العام لمؤسسة المياه في دمشق وريفها، أحمد درويش، أشار إلى أن الانقطاعات المتكررة تعود إلى تراجع منسوب المصادر المائية، ونقص الطاقة اللازمة لضخ المياه، إضافة إلى الأعطال المتكررة في الشبكات. وأضاف أن المؤسسة تعمل وفق خطة طوارئ تتضمن إعادة تأهيل أكبر عدد ممكن من الآبار والمصادر لتعويض النقص، إلى جانب صيانة خطوط النقل والتوزيع، لافتاً إلى أن تنفيذ المشاريع الاستراتيجية لضمان استدامة الإمدادات "يتطلب موارد مالية وفنية وبشرية ضخمة".
شرايين الحياة التي تجف لم يعد العطش في سورية نتيجة تراجع الأمطار فقط، بل أصبح انعكاساً مباشراً لانحسار الأنهار التي شكلت لعقود شرايين البلاد. نهر الفرات، الذي يمد السوريين بأكثر من ثلثي حاجتهم من المياه ويغذي السدود الكبرى لتوليد الكهرباء، يشهد أدنى مستوى في تاريخه، حيث تقلصت كميات التدفق القادمة من تركيا إلى أقل من 50% مقارنة بالاتفاقيات السابقة. رافده نهر الخابور أصبح مجرى ضيقاً موسمياً، وتراجع تدفق نهر البليخ قرب الرقة إلى حوالى 40% من معدلاته المعتادة.
في دمشق، نهر بردى الذي تغذيه عين الفيجة، المصدر الرئيسي لمياه العاصمة، يشهد جفافاً حاداً مع انخفاض منسوب المياه بما يزيد على 60% مقارنة بالسنوات الماضية، فيما تراجع تدفق نهر العاصي شمالاً بنسبة تقارب 55%، ما هدد الأراضي الزراعية في سهل الغاب بالتصحر وفقدان الخصوبة. أثر الأزمة على أصحاب المهن الأزمة المائية لم تترك أصحاب المهن بمنأى عن معاناتها. يقول فيصل داود، صانع معجنات في حي المزة بدمشق، إن "الماء أصبح سلعة نشتريها بصهاريج بأسعار باهظة، ما رفع تكلفة الإنتاج كثيراً". ويضيف: "قبل الأزمة، كنا نستهلك مئات اللترات يومياً دون أن نفكر في ثمنها، أما الآن فكل صحن معجنات أصبح مرتبطاً بسعر الماء الذي نستخدمه. اضطررت إلى رفع سعر المنتج بـ50 ألف ليرة (نحو 5 دولارات) ، لكن الزبائن يشتكون أيضاً، وكأن الجميع محاصر بأزمة لم نخلقها". يقول خبير الموارد المائية والاقتصاد البيئي، الدكتور مروان دياب، لـ"العربي الجديد"، إن "سورية أمام أخطر أزمة مائية في تاريخها الحديث، فالجفاف لا يهدد الزراعة فقط، بل يضرب مجمل الاقتصاد الوطني. انخفاض إنتاج القمح والخضار يعني ارتفاع الأسعار واستمرار التضخم، وتراجع الكهرباء المولدة من السدود يزيد الأعباء على المصانع، فيما يعيش المواطنون تحت ضغط يومي لتأمين حاجاتهم الأساسية من مياه الشرب".
ويضيف: "الأزمة لم تعد مجرد نقص في المياه، بل تحولت إلى تهديد مباشر للاستقرار الاجتماعي والمعيشي، مع تزايد النزوح من الأرياف العطشى إلى المدن المزدحمة. هناك جهود محدودة لإدارة الموارد وتحسين شبكات المياه، لكنها تحتاج إلى دعم مالي وفني عاجل لتجنب الانزلاق إلى مرحلة العجز المائي الكامل".
العربي الجديد
|