في
حين أن الواقع يؤكد أن الفساد تعدى كونه ظاهرة محدودة بالمكان والأفراد أو
الوظيفة، بل أصبح بنية متشابكة ومتكاملة تعمل في ظل سياسات داعمة تحفزها
وتحميها!
فعنوان الفساد تتناوله الحكومة كل فترة بطريقة ضبابية مبهمة
دون الوصول لأي نتائج تذكر، وهذا ما حدث بتاريخ 2/1/2024 خلال جلسة مجلس
الوزراء الأسبوعية، حيث أكد رئيس مجلس الوزراء على «أهمية التعامل بكل
شفافية مع المواطنين وإطلاعهم على الواقع الراهن والصعوبات التي تواجه
العمل ومشاركتهم في اقتراح وإيجاد الحلول».
وقدم وزير العدل أحمد السيد
خلال الجلسة، بحسب الموقع الحكومي، عرضاً عن «نتائج أعمال اللجنة الفنية
لمكافحة الفساد والإجراءات المتخذة في هذا الإطار، حيث تم التأكيد على
استكمال المنظومة المؤسساتية المسؤولة عن مكافحة الفساد وتطوير وتعزيز
قدرات وأدوات عمل الجهات الفعالة في مكافحة الفساد، ومتابعة الإجراءات
المتخذة حيال تطوير واعتماد الأطر القانونية التي تعزز النزاهة والشفافية
وتحد من الفساد، وضرورة تعزيز دور المؤسسات التعليمية في خلق ثقافة رافضة
للفساد»!
مما يدفعنا للتساؤل هل الفساد سلوك فردي، أم أنه منظومة متكاملة وبنية محمية بقوانين وأشخاص نافذين؟
وهل سياسات الفساد والإفساد قادرة على إنتاج آليات لمكافحته رغم تاريخها الحافل؟
وهل يجب أن تنطلق هذه الآليات- إن وجدت- من معالجة النتائج أم الأسباب؟
نقاط لافتة في البداية!
الملفت بالطرح الحكومي أعلاه بعض الجوانب والنقاط المستفزة، لكنها غير مفاجئة بنفس الوقت!
الجانب المستفز الأول هو تجيير جزء من المسؤولية على عاتق المؤسسات التعليمية لخلق ثقافة رافضة للفساد!
فمع
عدم التقليل من أهمية دور المؤسسات التعليمية طبعاً، بحال أتيح لها القيام
بمهامها على أتم وجه، لكن المهمة أعلاه «خلق ثقافة رافضة للفساد» تكرس
وجهة النظر الرسمية التي تنظر لظاهرة الفساد وتعممها على أنها سلوك فردي
يرتبط بالتنشئة والتربية والأخلاق، وبحيث تحتاج معالجتها إلى ثقافة تعليمية
وتربوية فقط، متجاوزة جملة السياسات الظالمة والتمييزية، الفاسدة
والمفسدة، التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة لعقود مضت وحتى الآن، والتي كان
من نتائجها تكريس الفرز الطبقي وتعميق انعدام العدالة الاجتماعية، والتي
بدورها أفرزت الكثير من الموبقات والظواهر الاجتماعية الشاذة والهدامة، بما
في ذلك ظاهرة الفساد، بل مع التشجيع عليها وتعميقها!
والجانب المستفز
الآخر تمثل بتقزيم مثل هذه المسؤولية وحصرها ضمن وزارة العدل، حيث أوكل
لوزير العدل مهمة اعتماد الأطر القانونية التي تعزز النزاهة والشفافية وتحد
من الفساد، أي مزيد من التقزيم بحيث لم يتم الحديث حتى عن قانون بهذا
الخصوص، بل «أطر قانونية»، والتي يمكن أن تترجم على شكل المزيد من
التعليمات والقرارات الرسمية ليس إلا!
مع العلم أن أي قانون معني بظاهرة
الفساد من أجل مكافحتها، ومهما كانت نصوص مواده وحيثياتها محكمة، سيكون
عاجزاً عن مكافحة هذه الظاهرة في ظل استمرار سياسات الإفساد المتبعة!
أما
النقطة المستفزة الأخرى، وليست الأخيرة من كل بد، فهي الحديث عن «استكمال
المنظومة المؤسساتية المسؤولة عن مكافحة الفساد وتطوير وتعزيز قدرات وأدوات
عمل الجهات الفعالة في مكافحة الفساد»، كعبارة جوفاء لذر الرماد في
العيون!
فجميعنا يعلم مثلاً ما آلت إليه أجهزة الرقابة الداخلية في
الوزارات والمؤسسات والجهات العامة، من حيث التبعية والدور والمهام، على
أيدي الرسميين!
فقد كانت هذه الأجهزة، بالرغم من الملاحظات الكثيرة على
عملها وأدائها، عبارة عن مديريات كاملة الصلاحيات تتبع مباشرة للهيئة
المركزية للرقابة والتفتيش، ودورها المفترض رقابي ووقائي استباقي وتتبعي،
ومن ضمنه الحد من الفساد، وتتمتع بالاستقلالية النسبية عن الجهات العامة،
لكن تم اتباع هذه لأجهزة الرقابية لاحقاً بالجهاز الإداري للجهات الحكومية،
مع تقزيمها لتصبح عبارة عن دوائر فقط تتبع للمدير العام أو الوزير حسب
الحال، ما أفقدها استقلالها النسبي، وأضعف بالتالي دورها الرقابي بما في
ذلك الوقائي، بل وأضعف دور الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش نفسها
بالنتيجة!
بانوراما تاريخية!
سؤال بسيط يتبادر لأذهان معظمنا، هل الجهات الرسمية جدّية في مكافحة ظاهرة الفساد أم لا؟!
وللإجابة
عن السؤال أعلاه نستعرض بعض التطورات التاريخية فيما يتعلق بالقوانين
المعنية بمكافحة الفساد وتكريس النزاهة، أو أية تسمية أخرى تحمل نفس
المضمون والنتيجة المتوخاة منها!
ابتداء من قانون الكسب غير المشروع رقم
64 بتاريخ 15/6/1958 والذي احتوى خمساً وعشرين مادة، ومن أهم أحكامه
المادة (1) التي تنص على التالي: على كل موظف عام وكل عضو في أحد المجالس
النيابية التشريعية أو في المجالس الممثلة للوحدات الإقليمية، وعلى العموم
كل مكلف بخدمة عامة أو له صفة نيابية عامة دائمة أو مؤقتة بأجر أو بغير أجر
أن يقدم خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ تعيينه أو انتخابه، وكذلك خلال 60
يوماً من تاريخ ترك الوظيفة أو الخدمة أو زوال الصفة النيابية إقراراً عن
ذمته المالية وذمة زوجه وأولاده القصر في هذا التاريخ يتضمن بيان ماله من
أموال ثابتة أو منقولة وعلى الأخص الأسهم والسندات والحصص في الشركات وعقود
التأمين والنقود والحلي والمعادن والأحجار الثمينة وماله من استحقاق في
الوقف وما عليه من التزامات. وفي كل الأحوال يجب أن يتضمن الإقرار بيان
مصدر الثروة أو الزيادة فيها على حسب الأحوال»!
وقد نص القانون في
المادة (5) و(6) منه على تشكيل لجنة بقرار من رئيس الجمهورية مهمتها فحص
الإقرارات والبيانات، فإذا تبين للجنة وجود شبهات عن كسب غير مشروع أحالت
الأوراق للنيابة العامة التي تحرك الدعوى العامة أمام قاضي التحقيق!
فعلى
الرغم من دور هذا القانون في محاربة الفساد والمفسدين، ومع التأكيد على
عدم كفايته، إلا أنه بقي في الأدراج طي النسيان، بينما أعمال الفساد
وأنشطته بجميع أشكالها أخذت تزداد وتنتشر!
بتاريخ 15/8/1977 صدر المرسوم
التشريعي رقم (60) وعدل بعد يومين بالمرسوم التشريعي رقم (61) الذي نص على
تشكيل لجنة تحقيق في الكسب غير المشروع، وقد منحت اللجنة صلاحيات النيابة
العامة والتحقيق والإحالة!
وقبل أن تبصر اللجنة النور في عملها جرى
تعطيلها ودخلت طي النسيان أيضاً، بينما استمر الفساد في الانتشار عمودياً
وأفقياً، واستمر النهب للأموال والممتلكات العامة!
واللافت هنا أن هذا
القانون وحتى الآن ما زال ساري المفعول نظرياً، لكنه مُعطل عملياً، وهذا ما
تحدثنا عنه مطوّلاً في مادة بعنوان «محاربة الفساد وشريحة المُعطلين»
بتاريخ 6/8/2019!
ومما قلناه بوقتها: «إن القادرين على تعطيل هذا
القانون طيلة هذه الفترة بالرغم من نفاذه، قادرون على تعطيل أي مشروع أو نص
يطالهم بالمحاسبة أو يحد من نفوذهم، أو يحول دون زيادة مكاسبهم، ناهيك عن
إمكاناتهم وقدرتهم على صياغة ووضع القوانين والنصوص التي تزيد من نفوذهم
ومن حصصهم وأرباحهم وفسادهم، وطبعاً الحديث هنا عن شريحة كبار الفاسدين
وحيتان المال وكبار التجار وأصحاب الثروات، ومن انضم إليهم مؤخراً من تجار
حرب وأزمة، والمستفيدين من جملة السياسات الليبرالية المتبعة، مع الأخذ
بعين الاعتبار ارتباطات مصالح هؤلاء الإقليمية والدولية»!
أرشفة مستجدة!
وللتذكير أيضاً ففي عام 2019
نشرت صحيفة الوطن عن لسان مدير إدارة التشريعات الوظيفية في وزارة التنمية
الإدارية غياث فطوم أنه: «من المتوقع صدور قانون الإفصاح عن الذمة المالية
قبل نهاية عام 2019»، حيث أوضح حينها أن فكرة القانون تنص على: «إجبار
الموظفين والعاملين بالدولة على تقديم تصاريح بالذمم المالية قبل التعيين
بالوظيفة العامة وعند انتهاء الخدمة لتبيان إذا ما حصلت زيادة غير منطقية
أو غير مبررة في ثروتهم، وعلى هذا الأساس يحاسب الموظف سواء أكان حصل على
المال أم على أي مكسب مادي من خلال وظيفته بشكل غير شرعي، مؤكداً أن الهدف
من القانون هو الوقاية من الفساد»!
ولكن القانون لم يصدر، وبقي طي
النسيان أو بين أخذ ورد بين مجلس الشعب ووزارة التنمية الإدارية، وصولاً
إلى شباط 2022 حيث أعلنت وزيرة التنمية الإدارية حينها أن «قانون الذمة
المالية سيقرّ قريباً وسيعلن عنه في الوقت المناسب»، بمعنى مفترض أنه أصبح
بعهدة مجلس الشعب مجدداً، وبقي الحال كذلك حتى تاريخ 16/11/2022 حيث صرحت
وزيرة التنمية الإدارية عبر إذاعة المدينة إف إم: «هناك إجراء تنفيذي يتعلق
بالذمة المالية خلال الأيام العشرة القادمة.. سيصدر عن الحكومة في
اجتماعها القادم»!
وهكذا كان.. فمشروع القانون الذي هلل له على مدار 3
سنوات تم دفنه رسمياً والاكتفاء بإجراء تنفيذي حكومي فقط، ومع ذلك لم يسجل
أي جديد رسمي بهذا الشأن بعد ذلك حتى موعد الجلسة الحكومية الأخيرة أعلاه،
وبما ورد فيها من تقزيم لظاهرة الفساد وآليات التعامل الرسمي معها!
قمة التعامي المتعمّد!
من المفروغ منه أنه بحال توفر
النية الجادة والصادقة من الرسميين، لمعالجة
موضوع شائك وكبير كظاهرة الفساد المستشرية والمتغوّلة، أن يتم البدء
بالسياسات التي أفضت إليها وولدتها!
فمكافحة ظاهرة الفساد تبدأ
بالسياسات وليس بالتعليمات أو بالقوانين والقرارات، مع عدم التقليل من
أهميتها بحال تكاملها مع السياسات، وليس من دون أدنى شك بتعهيد هذه المهمة
للمؤسسات التعليمية لخلق ثقافة رافضة للفساد!
فالسياسة الأجرية على سبيل المثال تعتبر من أكثر الأمثلة الفاقعة على التوحش والإفساد!
فكيف لموظف أن يعيش براتب لا يتعدى 300 ألف ليرة سورية في حين بلغت تكاليف المعيشة للأسرة 12 مليون ليرة؟!
فهذه
الفجوة الكبيرة بين الأجور والأسعار وتكاليف المعيشة وحدها كفيلة لدفع
الموظفين، دون تعميم طبعاً، باتجاه البحث عن مورد رزق إضافي من عملهم
لتأمين ضروراتهم المعيشية فقط، والطريق الأسهل لذلك هو الرشوة أو
الإكرامية، أو أية تسمية أخرى تكرس نمط الفساد وتعممه في المؤسسات والجهات
العامة، وخاصة في تلك المواقع التي تكون على تماس مباشر مع المواطنين
بخدماتهم ومعاملاتهم!
فالسياسة الأجرية المتبعة والمستمرة، بالإضافة إلى
كونها ظالمة ومجحفة، فهي تعتبر سياسة فساد وإفساد معاً، وهي لوحدها كافية
لتعرية كل الادعاءات الرسمية حول مكافحة الفساد، أو النوايا الخلبية المعلن
عنها من أجل ذلك!
فكيف الحال مع بقية السياسات الاقتصادية والاجتماعية،
الأكثر جوراً وظلماً، المعمول بها، كسياسات تخفيض الإنفاق العام، وسياسات
تخفيض الدعم المتبعة والسياسات السعرية والمالية والنقدية والضريبية.. إلخ،
والتي تعتبر بمجملها السبب الأساسي للإفقار وللفساد و.. ولكل الموبقات
والظواهر الهدامة مجتمعياً!
الفساد الصغير للتعمية عن الكبير!
في معرض الحديث عن ظاهرة الفساد
تجدر الإشارة إلى أن تعميم الفساد والإفساد في الجهات والمؤسسات العامة
على مستوى الموظفين هو شكل من أشكال تعميم الفساد الصغير غايته التغطية
العملية على أشكال وأنماط الفساد الكبير، وهو الأهم طبعاً، والتعمية عنها،
بل وغالباً ما يقع بعض صغار الفاسدين في شباك الكبار نفوذاً وتسلطاً
وفساداً لتسليط الضوء عليهم، أو للتضحية بهم عند الضرورة من أجل إفلات
هؤلاء الفاسدين الكبار!
وبهذا الصدد ربما لا مجال للمقارنة بين فاسد
صغير يحصل على مئات الآلاف شهرياً من موقعه الوظيفي من خلال ابتزاز أو
استغلال المواطنين بشكل أو بآخر، دون تبرير ذلك طبعاً، مع فاسد آخر كبير
ونافذ يحصل على مئات الملايين شهرياً من موقعه الرسمي من خلال تمرير صفقات
أو عقود أو مصالح ومخالفات بالمليارات لمصلحة كبار أصحاب الأرباح، وربما
لمصلحته من الباطن أيضاً!
تساؤلات مشروعة!
الآن، وبعد كل ما سبق ذكره نتساءل مع غيرنا، هل الحكومة والرسميون جديّون بمكافحة الفساد؟!
وهل محاربة الفساد تنتظر إقرار قانون ما؟ أم إن التريث والتسويف يتيح الفرصة لمزيد من النهب على حساب مقدرات البلاد والعباد؟
ولكم
أن تتخيلوا مثلاً أن نسأل ونسائل أحد كبار حد كبار الناهبين من أصحاب الأرباح، من أين لك هذا؟!
عن قاسيون