سيرياستيبس :
وائل علي
لا تزال في بال الكثيرين “ربما” من أبناء جيل تلك الفترة الذهبية التي
عاشها مرفأ طرطوس، في سبعينيات وثمانينيات، وحتى نهاية الألفية الثانية،
يوم كانت تؤم أحواضه وأرصفته السفن والبواخر الضخمة الحديثة القادمة
والمغادرة من أربع جهات الأرض على مدار ساعات الليل والنهار على وقع هدير
صفاراتها الضخمة، عدا الراسيات على قائمة الانتظار “waiting list”، لأيام،
وأحياناً أسابيع، لتتمكن من تفريغ أو شحن بضائعها لمقاصدها، رغم أننا كنا –
حينها – خارجين للتو من معارك حرب تشرين التحريرية، حيث لم تنج بعض ساحات
المرفأ من استهداف العدو الصهيوني الهمجي الغاشم – وما تلاها من حرب
استنزاف وحصار مشابه للذي نعيشه اليوم إلى حد ما. ومع ذلك صمد مرفأ العرب
كما كان يكتب على لافتة مدخله الرئيسي بالخط العريض، وظل المرفق الاقتصادي
الاستراتيجي الأول قبل النفط – بلا مبالغة – الذي يدر ويضخ بسخاء القطع
الأجنبي للخزينة العامة والبلاد والعباد على حد سواء، وهذا ما حفظ لليرة
هيبتها وقوتها لعقود طويلة.
وليس هذا فحسب، فقد تمكنت حيوية المرفأ وحركته الملاحية الغزيرة آنئذ،
التي لا تنقطع ولا تنضب من استقطاب السياح والزوار واجتذاب رجال المال
والأعمال وأصحاب ومالكي ومشغلي السفن والوكالات والخطوط البحرية والملاحية
العربية والأجنبية، بشقي نقل البضائع والشحن البحري من جهة، والركاب من جهة
أخرى، ليفقد مرفأ طرطوس اليوم، وخلال الأعوام القليلة الماضية، بريقه
وألقه غير المفهوم مع الأسف الشديد وتحوله إلى مجرد أحواض خاوية، اللهم من
الأسماك التي وجدت فيه ملاذا ومأوى آمنا، وبعض بواخر الأقماح والفوسفات،
حيث لم تنقذنا الحلول العرجاء من بلة الطين، بل زادت في ابتعاد مسافات
الإصلاح التي غرقت وسط مياه الأحواض الراكدة، على ما يبدو، والتي ابتلعت
المرفأ وأخرجته من الحياة، ولم يبق إلا إعلان موته القسري الفعلي وليس
السريري، لنقول بكل وضوح وصراحة: كان لدينا مرفأ…!
وليس صحيحا – بتقديرنا على الأقل – أن تداعيات الحصار “فقط” المفروض على
بلادنا هو السبب اللذي أوصل المرفأ لهذه المواصيل التي أصابته في مقتل
وحولته لمقبرة للروافع والمعدات والقواطر والنواقل، بعد أن كانت مفخرة
البنية التحتية المرفئية اللوجستية، فيما الريح تعصف وتصفر في ساحاته
ومستودعاته الخاوية بفعل الكثير من السياسات والإجراءات الاقتصادية
وانعكاساتها على مختلف المرافق، ومن بينها المرفق المرفئي…!
من هنا، فإن السؤال، بل الأسئلة التي تطرح نفسها تقول: أين مفاعيل
العقود التي وقعت مع إحدى الشركات الخاصة المستثمرة للمرفأ قبل سنوات؟ وأين
راح الاتجاه شرقا؟ هاكم مرفأ بيروت المدمر الذي استعيض عنه بباقي المرافئ
اللبنانية كي لا يتخلوا عن حيوية هذا المرفق الحيوي الذي يدر دجاجه ذهبا،
وها هي مرافئ الخليج مجتمعة وجبل علي، والموانئ المصرية، تزدهر وتنطلق
وتتصدر ساحة الأعمال والتجارة والنقل البحري، ونحن سادة البحار والمحيطات
وربابنتها منذ مخر أجدادنا الفينيقيون عبابها قبل عشرة آلاف عام.. وشتان ما
بين الأمس واليوم… عجبي…!!