سيرياستيبس:
في يوم صيفي من عام
1862 كان شارلز دودسن، المصور الفوتوغرافي وعالم الرياضيات البريطاني، يتنزه على متن
قارب بصحبة صديقه وثلاث طفلات شقيقات. راح دودسن يتفنن في إدهاش الصغيرات بحكايات خيالية
مرتجلة، واستعار اسم البطلة من إحداهن، أليس ذات العشرة أعوام. بعد بضع سنوات من ذلك
وجدت هذه الحكايات طريقها إلى النشر في كتاب صار واحداً من روائع الأدب العالمي: “مغامرات
أليس في بلاد العجائب”. على الأرجح، لم يخطر لدودسن، الذي صار اسمه لويس كارول، ولا
لملهمته أليس بأن اسميهما سوف يخلدان لأجيال عديدة لاحقة.
الكاتبة السويدية استريد
ليندغرين بدأت بتأليف قصص الأطفال عندما كان عمرها 37 عاماً. قبل ذلك كانت امرأة بلا
أي طموح أدبي، أُماً وحسب، أما بدايتها ككاتبة أطفال فقد كانت “عندما أصيبت ابنتي كارين
بمرض التهاب الرئة وهي في السابعة من عمرها، في كل يوم، وأنا أجلس بجانب سريرها، كانت
تلح علي لقص حكايات لها، وفي إحدى المرات سألتها: أي الحكايات تريدين؟ فأجابت: حكاية
بيبي ذات الجوارب الطويلة، لقد اخترعت هي هذا الاسم في لمح البصر، لهذا لم أسألها أي
شيء، فقط بدأت بسرد القصة، ولأن الاسم غريب فقد سردت حكاية غريبة أيضاً، بعد وقت أحبت
ابنتي هذه الحكاية وأحبها أصدقاؤها، وبقيت لسنوات أحكي لهم حكايات بيبي”.
“بيبي ذات الجورب الطويل” صارت أيضاً كتاباً
شهيراً، بيع منه سبعة ملايين نسخة، وترجم إلى جميع لغات العالم، كما تحول إلى دراما
في نسخ عديدة.
إذا ما تقصينا وراء أسماء
شهيرة أخرى في “أدب الأطفال” لوجدنا “بدايات” مشابهة ذات سمة مشتركة، ربما أمكننا تسميتها
بـ “العرضية”، حيث الدخول إلى عالم الأدب دون قرار مدروس أو تخطيط مسبق، وسنعثر كذلك
على سمة مشتركة أخرى وهي أن معظم كتاب الأطفال هؤلاء كانوا أطفالاً كباراً. رجال ونساء
ظلوا، لأسباب مختلفة، مشدودين إلى طفولتهم، وما قصصهم وحكاياتهم المختلقة إلا استعادة
رمزية لتلك الطفولة المفتقدة.
تقول ليندغرين: “أنا لم
أبدع قصصي من خيال أطفالي، أنا بسهولة كتبت عن طفولتي، وأنا لا أصغي إلا لصوت الطفل
الذي في داخلي”. أما هانز كريستيان أندرسن فيقول: “حياتي كلها لم تكن سوى حكاية حلوة”.
وكان مقدراً لهذه الحكاية الحلوة أن تنتهي مع توديع عالم الطفولة، لكن أندرسن أراد
أن يطيلها لتمتد طوال حياته، ولم يجد وسيلة لذلك إلا أن يكتب بنفسه حكايات حلوة على
منوالها..
هل هذه العفوية وهذا الحنين
هما ما جعل من كتب الأطفال هذه روائع في عالم الكبار؟
كتاب انطون دي سانت أكزوبري
“الأمير الصغير” لا يزال يحافظ على موقعه كواحد من أفضل الكتب الفرنسية مبيعاً. لقد
ترجم إلى أكثر من 230 لغة وبيع منه أكثر من 80 مليون نسخة في جميع أنحاء العالم. وفيما
كنا نودع القرن المنصرم أجرت صحيفة “لوموند” الفرنسية استطلاعاً تم فيه التصويت لـ
“الأمير الصغير” كواحد من أفضل كتب القرن العشرين في فرنسا.
الكاتب الأرجنتيني البرتو
مانغويل بدأ جميع فصول كتابه “فن القراءة” باقتباسات من “أليس في بلاد العجائب” حتى
بدا الكتاب وكأنه مجرد تنويع على “أليس لويس كارول”.
الاستشهادات من “حكايات
أندرسن” تحضر على الدوام، ليس في الكتب والمقالات الأدبية فقط، بل وفي الدراسات الاجتماعية
وكتب علم النفس والتربية.. بل حتى في المقالات السياسية.
هل هو الوثاق الذي يشدنا،
نحن القراء الكبار، إلى طفولتنا.. إلى فردوسنا المفقود؟
لقد درج النقاد ودارسو
الأدب على تفسير خلود الأساطير والملاحم والحكايات الشعبية القديمة، بما تقدمه هذه
“الأعمال الخالدة” من أسئلة أصلية تمس جوهر الوجود الإنساني، وبما تقدمه من أبطال عراة
إلا من إنسانيتهم، يواجهون العالم بدهشة بكر وفضول خام. أبطال أقرب إلى صورة الإنسان
الأول الفطري، الذي يجد نفسه فجأة وسط عالم من العجائب، فينبري، بجرأة وبراءة، إلى
طرح الأسئلة على كل، وعن كل، ما حوله.. بلا مسبقات أو أيديولوجيات، ودون حساب لـ “نظرة
الآخرين”، ولا اكتراث بـ “عيب الجهل”. وفي محاولته الباسلة للفهم والإجابة فهو لا يتردد
في استخدام خياله، محلقاً فوق المعطيات المحسوسة إلى عوالم أكثر ثراء وبهجة، مختلقاً
كائنات وموجودات تزين حياته وتضفي شيئاً من المعنى عليها..
أليست كل هذه هي سمات
روائع أدب الأطفال أيضاً؟
بينما كان الروائيون في
القرن التاسع عشر يتبارون في “تصوير الواقع” وفي “أمانة نقله كما هو”، معتمدين الوصف
التوثيقي وتدوين المعلومات بدقة “كاتب سجل عدلي”، فإن أليس دخلت، ببساطة وتلقائية،
في جحر أرنب، وحاورت فأراً وقطاً وسلحفاة، وعايشت حيوات ورق الكوتشينة.. دون اكتراث
بقواعد “المدرسة الواقعية” أو محددات “المدرسة الطبيعية”. لقد وجدت نفسها في عالم من
المجانين، أمام ملك كوتشينة الساذج والمتردد وملكة كوتشينة الغاضبة على الدوام تأمر
بقطع الرؤوس لأتفه سبب، وقد اجتهدت أليس في استظهار دروس اللباقة وحسن السلوك التي
تعلمتها في عالم الراشدين غير أن طفولتها انتصرت عندما صاحت بنفاذ صبر: “ما أنتم إلا
ورق كوتشينة”.
الطفل في قصة أندرسن،
“ثياب الإمبراطور الجديدة”، هو الوحيد الذي ينطق بالحقيقة “الإمبراطور عارٍ”، فهو،
دون جميع الآخرين من الكبار، لا يزال يملك وعياً لم يزيفه الخوف والتملق والتقليد الببغائي..
الصبي في “الأمير الصغير”
ظل يشكو من جهل الكبار وامتناعهم عن إعمال مخيلتهم، مغلبين المألوف على الجديد، والمحفوظ
على المُكتشَف.. جميع هؤلاء عجزوا عن رؤية لوحته الجميلة كما هي، أو كما أرادها أن
تكون: أفعى تلتهم فيلاً.
الأسئلة الأولى التي لا
تزال تعتمل في عقولنا ومع ذلك صرنا نستحي من طرحها، الجرأة في الخروج على المألوف والتقليد
والمحفوظ؛ الدهشة البكر والفضول الملتهب؛ الخيال المجنح المنفلت من عقال القوانين والقواعد،
البراءة في السؤال وفي محاولة الإجابة.. هي جميعها ما نفتقد في حياة الراشدين المتجهمة،
وهي ما تحافظ على طزاجة الطفولة وكتبها في ذواكرنا، وهي بالتالي ما تشدنا على الدوام
إلى أليس ورفاقها المبهجين.
سلمان عز الدين
-الأيام