سيرياستيبس :
لم
يكن تهريب الآثار من سورية يوماً خبراً جديداً، بل كانت هذه الممارسات
جزءاً من الحدث اليومي السوري عبر عقود القرون التاسع عشر والعشرين والحادي
والعشرين، على ما تذكر الصحافة موثِّقَةً الحدث اليومي. على أن وتيرة هذا
التهريب كانت تتصاعد أو تنخفض حسب إيقاع الواقع السياسي في البلاد، المرتبط
حتماً بالتغيرات الاقتصادية-الاجتماعية ودرجة إشراك المجتمع في صنع
القرار، والاضطرابات السياسية كالحروب الداخلية والخارجية، والتي لم تكن
آخرها – وهي حرب السنوات العشر الأخيرة – إلا أقساها وأشدها وطأة على
التراث الوطني السوري عموماً والآثار خصوصاً.
من
الدوافع الأساسية الظاهرية لسرقة الآثار في هذه الحرب كان تمويل «داعش»
و«جبهة النصرة» وأمثالها من الفصائل المرتبطة مباشرة بالعدو الأمريكي، وهذا
بالطبع نوع من إعادة السيناريو الذي جرى في العراق، والذي كان يهدف لمحو
تراث المنطقة، من خلال سبل متعددة منها سرقة الآثار ومنها تزويرها لتغيير
الوقائع التاريخية في العهود القديمة (لا يمكننا إلا أن نشير بأصابع
الاتهام إلى حليف الأمريكي ههنا أي العدو الصهيوني)، وإبقاء شعوب المنطقة
دون الحد الأدنى من الشعور بالانتماء والهوية الوطنية التي تكتنفها أساساً
العديد من الصعوبات والعقبات المتعلقة ببنية الأنظمة.
لم يكن الفاسدون في أي وقت من
الأوقات قبل الحرب وأثناءها بعيدين عن مشهد سرقة الآثار وتهريبها وحتى
تدميرها (في محاولات البحث عن الذهب المدفون)، وكان مشهد كشف التهريب الذي
يجري على الحدود أو أمام الصحافة العالمية هو غيض من فيض من التهريب الذي
يجري على أرض الواقع، ويؤسفنا أن نقول أنه حتى بعض البعثات الأثرية ومراكز
الأبحاث الأثرية كانت شريكة في هذه العملية بشكل أو بآخر.
ليس تهريب الآثار إلا جزءاً من
مشهد تبدو ملامحه الأخرى في الإهمال المتعمد للبنى الأثرية القائمة حتى
اليوم، لتركها لتصبح فريسة سهلة للزمن الكفيل بالقضاء عليها، هذا الزمن
الذي يتواطأ مع تجار الفساد لتحويل المناطق الأثرية إلى منتجعات على النمط
الأمريكي خالية من أي روح محلية، بإنكار الطابع الأثري والتاريخي للمناطق
عبر شبكات من الفاسدين والخائفين.
تعّد سوق الممتلكات الثقافية
سوقاً ضبابية، تباع فيها بضائع غير مضمونة المصدر. وبالرغم من صعوبة تقدير
قيمة هذا الجانب غير المشروع بصفة دقيقة، يبقى بالإمكان بلورة فكرة عن
حجمها. في 2005 قُدّر أن الممتلكات التي تمت سرقتها من العراق خلال الفترة
الممتدة من آذار 2003 إلى أوائل عام 2005، ما بين 400 ألف إلى 600 ألف قطعة
أثرية تقدر قيمتها بين 10 ملايين و20 مليون دولار.
من المعروف أن هناك الصعوبة
فائقة في جمع الإحصائيات حول الإتجار غير المشروع، حتى عندما يتعلق الأمر
بالجريمة المنظمة «العادية» التي تُرتكب في بيئات مستقرّة نسبياً. وتتفاقم
هذه الصعوبة في حالة الحروب نظراً لتورط عدد هائل من الفصائل المتقلبة في
الداخل، وللتغير المستمر للأطراف الخارجية المتعاونة معها. بل تتعقد الأمور
أكثر عندما ترتبط الحرب بالاقتصاد، ويغذي بعضهما بعضاً. كما في العراق
وسورية، حيث توجد العشرات من الشكاوى الدقيقة التي لا يمكن إقامة أي دليل
لإثباتها.
فرضت داعش (حسب مقر أبي سيّاف)
ضريبة تساوي خمس قيمة مبيعات القطع الأثرية المنهوبة في مقاطعة دير الزور
في غضون أربعة أشهر، قدرها 265 ألف دولار على مجمل المبيعات التي ناهزت
1,32 مليون دولار. مما قد يعني أن قيمة الضرائب التي جنتها داعش خلال سنة
2015 تناهز 800 ألف دولار لمبيعات تقدر إجمالياً بنحو 4 ملايين دولار. لكن
هذه العيّنة ضئيلة جداً.
يبدو أنّ الجريمة المنظمة هي
التي تتحكم في الإتجار بالمواد الأثرية السورية التي تمر عبر لبنان، وشهد
هذا الاتجار تزايداً مهولاً منذ بداية الحرب. وقد ألقت الشرطة الألمانية
القبض على عصابة قامت بسرقة مواد ثقافية محليّاً من 2011 إلى 2014 بهدف دعم
الجماعات السورية المسّلحة مثل أحرار الشام وجنود الشام، أو داعش.
استعادة الآثار المسروقة
رغم إنكار تسويق قطع أثرية من
سورية والعراق، إلّا أنّه تّم العثور على بعضٍ منها في كل من بلغاريا
(2015)، والمجر (2017)، وسلوفينيا (2016)، وفرنسا (2016). وقد كشف بعض
علماء الآثار أنه تمّ إيقاف قطع أثريّة واردة من مناطق الحرب في 2015 لكنه
تمّ اخلاؤها لتعرض في السوق البريطانية، دون إعادتها إلى دولها الأصلية.
أغلبية الآثار المنهوبة لم تتمّ
إعادتها إلى سورية منذ سنة 2011. ويعود السبب، دون شك، إلى الصعوبة
التقنية في إسناد أصل قطعة أثرية بمجرد الاعتماد على الطراز القديم لتلك
القطعة. كما يعود السبب أيضاً إلى لجوء الناهبين، والمهربين، والتجار
وجامعي التحف الأثرّية إلى المحو المتعمّد للأدّلة العلمية والقانونية التي
تسمح بإسناد القطع إلى بلدها الأصلي.
نهب عالمي للآثار
إنّ الوضع القائم في سورية
والعراق ليس أمراً جديداً أو مفاجئاً. فتم تدمير أفغانستان من جراء أعمال
النهب والتهريب والابتزاز التي اقترفها كل من الأمريكيين وحركة طالبان
وغيرهم. وخلال الحرب في لبنان من عامي 1975 إلى 1990، نهبت قوى مختلفة
الآثار وصدّرتها إلى الخارج.
ويعود تاريخ الإتجار بالآثار في
مناطق الحروب، بوصفه جريمة دولة، إلى ما لا يقل عن قرن ونصف. وقد حدث ذلك
أحياناً بإدارة مباشرة من قبل البلدان التي وفرت الطلب وقامت أسواقها
بتمويل الصراع. وفي حالات أخرى، تم التهريب بتواطؤ الدول التي سهّلت تمويل
الوكلاء والحلفاء وغيرهم من الجماعات المسلّحة. وتحت أنظار تلك الدول
مباشرة.
القوانين والقرارات الدولية
استنادًا إلى قواعد القانون الدولي العام، فإن الممتلكات
الثقافية «ذات الأهمية الکبرى لتراث الشعوب» – وفقًا لأحکام اتفاقية لاهاي
لعام 1954 بشأن حماية الممتلکات الثقافية – محمية ضد مختلف أشكال الأفعال
غير المشروعة بما في ذلك التدمير والتخريب والنهب والإتجار غير المشروع
بها، فضلاً عن أنَّ هذه الأفعال غير المشروعة مجرَّمة وفقًا لأحكام القانون
الدولي الجنائي باعتبارها جرائم حرب. إن القوانين شيء وتنفيذها على أرض
الواقع شيء مختلف تماماً في واقع الحرب السورية.
أصدر مجلس الأمن التابع للأمم
المتحدة القرار رقم 2199 في عام 2015، وفيه تشديد للعقوبات المالية
المفروضة على (داعش) وجبهة النصرة وغيرها من الجماعات المرتبطة بتنظيم
القاعدة، لتعطيل أنشطتها العنيفة من خلال تجميد مصادر تمويلها وإنفاقها،
مثل الموارد المالية الناجمة عن أعمال النهب والتهريب والإتجار غير المشروع
بالممتلكات الثقافية، مشدداً على الممتلكات الثقافية التي يشتبه في أنّها
قد نقلت بصورة غير مشروعة من سورية بعد آذار 2011.
ثم أتى القرار رقم 2253، للعام
2015، ليلزم الدول بالإبلاغ عن المواد الثقافية الآتية من العراق وسورية
التي قامت بمصادرتها وتقديم تقرير عن نتائج الإجراءات المتخذة ضّد مهربي
الآثار الذين يمولون تنظيم داعش وجبهة النصرة والقاعدة وشركائهم. كما عزّز
مجلس الأمن هذه التدابير بإصداره القرار 2347 سنة 2017 الذي يطالب الدول الأعضاء بحظر الإتجار بالممتلكات الثقافية أو نقلها من كافة مناطق النزاعات.
لكن كل هذه الإجراءات لم تستطع منع هذا الإتجار لأن سوقها ما زال موجوداً.
جمع المعلومات الدقيقة
ويشكّل جمع المعلومات الدقيقة
تحديًا كبيراً، ولكن على الرغم من العنف، يحاول عدد من علماء الآثار
والمواطنين توثيق تدمير المواقع التاريخية على أثر مغادرة كل البعثات
الأثرية الدولية للأراضي السورية.
هناك ستة مواقع في البلاد تظهر
على قائمة مواقع التراث العالمي لليونسكو، وهي: دمشق وحلب وقلعة الحصن
وتدمر وبصرى والمدن المنسية في شمال غرب سورية. وهناك مئات من المعالم
الأثرية على قائمة اليونسكو بشكل مبدئي، كما يضم سجل التراث الوطني ثروة من
الكنوز.
منذ آذار 2011، كثيراً ما تم
الإبلاغ عن تدمير المواقع التراثية. وتتراوح أسباب الدمار بين القصف وإطلاق
النار إلى الاحتلال العسكري والتفجير. بالإضافة إلى استشراء النهب
والعمليات غير القانونية في المواقع الأثرية غير المحروسة.
إن المديرية العامة للآثار
والمتاحف هي السلطة المسؤولة عن صيانة التراث وحمايته والحفاظ عليه في جميع
أنحاء البلاد، ولكن استمرار الصراعات يجعل مهمتها صعبة. وقبل بدء الحرب،
كان هناك نحو 180 بعثة أثرية وطنية ودولية ممثلة في سورية، لكنها غادرت
البلاد جميعاً في عام 2011.
ورغم خطورة جمع البيانات قام
أكاديميون ومواطنون بإعداد أرشيف للآثار التالفة وعرض بياناته، ويصرح
الباحثون أن هناك تقنيات ترميم فعالة لا تتطلب كثيرًا من الوقت والمال فقط،
بل معلومات مفصلة ودقيقة عن الآثار أيضاً وهو ما يقوم به هؤلاء. هذا وتشير
بعض الوثائق إلى أن الحكومة تلقت تحذيرات تتعلق بوجود عصابات تستهدف
الآثار، وأن الإنتربول يتقصَّى حول الآثار المسروقة، ولكن النهب والتهريب
مستمران.
مع العلم أنه ما من سياسة وطنية
تنظم البحث المتعلق بالتراث التاريخي، ولم تأخذ الحكومة أبداً الوقت
الكافي لصياغة مثل هذه السياسة وتنفيذها. فقد وقّعت الحكومات المتعاقبة كل
أنواع الاتفاقات الدولية لإنشاء مراكز التوثيق وحماية التراث الثقافي في
أوقات الحرب، لكنها لم تنفذ هذه الاتفاقيات.
تقديرات وطنية
يمكن تقدير الآثار المنهوبة أو
المخربة: بنحو مليون قطعة سُرقت، ومنذ بدأت الحرب صار عمل معظم الآثاريين
كما يقولون يتركز حول إخفاء الآثار، وليس كشفها، ثم نقلها إلى أماكن آمنة،
حيث تم إنقاذ أكثر من 90% من مقتنيات المتاحف خلال الحرب أما الخسائر
الكبرى فتركزت في المواقع الأثرية أو المناطق التي خرجت عن السيطرة حسب
التصريحات الرسمية.
ويوجد أكثر من 10 آلاف تل أثري
مكتشف في سورية، كثير منها تعرض للتخريب والتنقيب غير الشرعي، وتجريف
التلال الأثرية وهو ما سبب تخريباً للسويات الأثرية التي تحدد الأزمنة
والحقب التاريخية المختلفة.
ووثقت المديرية العامة للآثار
والمتاحف 710 من المواقع والمباني الأثرية التي تعرضت للتخريب، وتراوحت
الأضرار بين التخريب الجزئي، والاندثار أو التهدم الكامل، كما في تل مقداد
الكبير في درعا، والجامع الأموي بحلب.
وكانت عمليات الحفر والتنقيب
غير الشرعي من أكثر التعديات، خاصة في المواقع التي خرجت عن السيطرة، ومن
تلك المواقع استخرجت لقى أثرية لا يعلم أحد نوعها وعددها، إلا عبر توقعات
تستند إلى قرائن.
ويقدر عدد القطع التي هربت خارج
البلاد حسب التقديرات الرسمية بما لا يقل عن مليون قطعة، وذلك قياساً إلى
توثيق وتحليل الصور التي تم توثيقها والتقاطها للمواقع الأثرية.
في المزادات العالمية
إلى جانب الآثار العراقية، تباع الآثار السورية بالمزاد في الأسواق العالمية.
وما زالت القطع تباع حتى الآن في الأسواق العالمية، والمشكلة أن معظمها ليس لها قاعدة بيانات إذ تم تهريبها بعد تنقيب غير شرعي.
وقد أعدت مديرية الآثار «لائحة
حمراء» تحوي نموذجاً للقطع الأثرية السورية بحيث يمكن أي جهة أن تستدل على
جغرافية الأثر عبر اللائحة، حتى لو لم يكن موثقاً لديها، أرسلت تلك
اللائحة إلى الإنتربول «بحيث يمكنه التعرف على أي قطعة مهربة تعود للحضارة
السورية، رغم أن ضبط تلك القطع ليس سهلاً فهي لا تمر عبر القنوات الرسمية»،
بالإضافة إلى تزوير القطع الأثرية وهي الظاهرة التي نشطت خلال الحرب،
وتبلغ نسبة القطع الأثرية المزورة (بين ما تمت مصادرته) ما يقدر بنحو 50–60
%.
التغطية الإعلامية
يبدو أن التغطية الإعلامية للأخطار المحدقة بالآثار تشكل
الجانب المظلم لحماية التراث الثقافي. ما يشير إلى أن الجهود الإعلامية غير
الموجهة لحماية التراث الثقافي من أضرار الحرب تساهم أحيانًا في جعل
التراث الثقافي عرضة للخطر أو حتى التسبب في تدميره. كلما تحدثنا عن التراث
الثقافي وقيمته وأهمية حمايته، زاد اهتمام بعض الفئات باستهدافه.
إن الواقع اليوم يدلنا أننا أمام مهمة وطنية معقدة تستوجب تغيير نمط التفكير كلياً تجاه التراث الثقافي السوري المادي وغير المادي.
فالمطلوب اليوم أولاً هو إيقاف
عمليات نهب الآثار التي تجري على كل الأراضي السورية ومن ثم المباشرة بحصر
كل الأضرار والمتبقي من الآثار ضمن عمليات مسح شاملة شديدة الدقة العلمية،
يمكن فيها الاستعانة بخبرات الأصدقاء (وليس الناهبين والأعداء) من أجل
البدء بحملة عالمية لاستعادة الآثار المنهوبة عالمياً، والعمل على حماية ما
تبقى، وإعداد الكوادر الضرورية بأسرع ما يمكن للقيام بهذه المهمة الصعبة.
قد لا يسمح الوضع المتردي اليوم بالقيام بهذه المهمة، لكنها حتماً على
أولويات المرحلة القادمة القريبة. فتراثنا تجاوز مرحلة الخطر ليدخل مرحلة
الانهيار.
الدكتورة عروة المصري - قاسيون