خاص
لسيريا ستيبس
في الحقيقة من أكثر
الأمور المحيّرة في هذا الزمان الصعب وشبه المُغلقِ علينا بالعقوبات والحصار ونهب
ثرواتنا النفطية على مرأى الجميع ومسامعهم، هو استمرار الدولة بدعم المشتقات النفطية.
كان من الممكن هضم
مثل هذا الدعم لو أننا ما نزال من البلدان المنتجة للنفط، فلا بأس عندها أن تصل
هذه الثروة الوطنية التي ننتجها محلياً إلى المواطنين المستهلكين بسعر مدعوم،
فعندها على الأقل تكون تكاليف النفط بسيطة تقتصر على عمليات التنقيب والحفر والاستخراج
والتكرير والنقل بأنابيب أو صهاريج ضمن أراضي البلاد، وما يتبع ذلك من عمليات
لوجستية ومقاولات مختلفة.
أمّا وأن تكون هذه
المشتقات النفطية – كما هي اليوم – مستوردة بالقطع الأجنبي، وحسب الأسعار المعتمدة
في السوق العالمية، وبالتحديد حسب الأسعار المعتمدة في منطقة ( البرنت ) كأساسٍ
للعقود، ومن ثم تأتينا التكاليف الأخرى الباهظة التي تُلصقُ بنا جراء الحصار الخانق، والتي تنجم عن
صعوبة قبول الناقلات بأن تنقل إلينا النفط كي لا تتعرض للمخاطر لأنها تصير ناقلة
مستهدفة إن أدرك فارضو الحصار أن وجهتها إلينا، كما أن الناقلات المتجهة إلينا لا
تستطيع أن تجري عقود التأمين، بسبب مقاطعة شركات التأمين وإعادة التأمين لنا جراء
العقوبات والحصار أيضاً، ولذلك فإن الناقلات والسفن المتجهة إلينا من الطبيعي أن
تفرض علينا أسعار نقلٍ باهظة من قبيل الاحتياط والحذر، لأن قبولها الوصول إلى المرافئ
السورية هو بحدّ ذاته مجازفة كبرى، ومغامرة قد تودي بها إلى مصير مجهول.
هذا
كله لا يتم إلاّ بأسعار مضاعفة وبالقطع الأجنبي طبعاً، نتكبدها في هذه الأيام،
وتُحمّل على أسعار النفط الذي تجهد الدولة وتبذل ما يشبه المستحيلات من أجل إيصاله.
تخيلوا أننا منذ سنوات
نعيش على هذا النحو، ولا نستطيع شراء برميل نفطٍ إلاّ بالخفاء وبما يشبه السرقة،
فصرنا أمام العقوبات والحصار الجائر علينا لا نستطيع تأمين احتياجاتنا من النفط
ولا من أشياء كثيرة أخرى إلاّ بهذه الطريقة الخالية من أي شعورٍ إنساني عند فارضي
الحصار الذين لا يملّون وهم يتشدّقون ويخدعون العالم بإنسانيتهم وبحرصهم على حقوق
الإنسان .. ! وكأننا نحن هنا في سورية لسنا أناسٍ ولا بشر، ولا نمتُّ إلى
الإنسانية بصلة .. رغم أننا مهدُ الإنسانية وأصلها وفصلها، وأساسُ الوجود، وها هو
قبر النبي ( هابيل ) هنا إلى جوار دمشق يشهد على ذلك، وتلك الأبجدية الفينيقية
تشهدُ أيضاً، فعن أي حقوق إنسانٍ يتحدثون ..؟!!
هم بالنهاية لا
يريدون منّا شيئاً سوى أن يركبوا على ظهورنا ويقودوننا إلى حيث يشاؤون هم، اذهبوا
إلى هناك .. فنذهب .. تعالوا .. فنجيء ، ونحن نأبى ذلك، وهذه مشكلتهم الحقيقية
معنا أننا نأبى ذلك، ونأبى إلاّ أن نعيش بكرامتنا، واستقلال قرارنا وحرية
خياراتنا.
المهم نقول : أمام
هذه المعاناة الشديدة وهذا الكفاح المضني الذي تخوضه الدولة من أجل تأمين احتياجات
البلاد من النفط ، كان يكفي أن تتمكّن من تأمين هذه الاحتياجات لنتوجّه إليها
بعظيم الشكر والعرفان، غير أنّ الأمر المحيّر فعلاً والذي ما يزال مستمراً هو أن
الدولة تواجه كل تلك المعاناة القاسية، وتؤمّن لنا احتياجاتنا من النفط بالقدر
الممكن، وهو في أغلب الأوقات كافياً ويزيد، ومع هذا لا تبيعنا هذا النفط كأي سلعة
عادية أخرى، أي تُحسب التكاليف مع هامش ربحٍ معيّن، ولكنها لا .. بل ما تزال حريصة
على أن تبيعنا إياه بالسعر المدعوم، أي بأقل من سعر الكلفة بعيداً عن أي أرباح،
ومن ثم هي التي تتكفّل بتغطية الخسائر الناجمة عن هذا الدعم، والذي أقرّت به
وقدّرته الموازنة العامة للدولة لعام / 2021 / بمبلغ / 2 / تريليون و / 700 /
مليار ليرة سورية ..!
إنه الكفر بعينه ..
ومع هذا ليتنا نُقدّر، وننتبه بحرصٍ ذاتي إلى عدم استهلاك أي مشتقات نفطية إلاّ
عند الضرورات القصوى تبعاً لواقع الحال، وكإحساسٍ منّا تجاه الدولة، وتقديراً لمعاناتها
والمخاطر التي تتحملها لقاء تأمين هذه المشتقات، وإيصالها إلينا بذلك السعر
المدعوم..!
لا بل على العكس،
فهذا أمر يبدو وكأنه لا يعنينا على الإطلاق، فصنابير الاستهلاك مفتوحة وجارية بلا
توقف ولا ترشيد، وكأننا أمام ينابيع من النفط تُغدقُ علينا من غامض علم الله ..
بالفعل وكأنّ أحداً لا يُقدّر، فها هي الشوارع تختنق بالسيارات التي لا تكاد
تتوقف، والأنكى من ذلك أنه حتى أولئك المُغرمين بالرعونة وتشفيط السيارات بسرعات
جنونية لا يكفّون عن ذلك، ولا يهتمون بكل ما يجري.
ما من شك بأن إخضاع
النفط إلى السعر العالمي – الذي لا يكترث به أحداً – ووقف هذا الدعم غير المبرر
منطقياً واللامعقول، سيقودنا إلى عدة احتمالات إيجابية وأخرى سلبية.
الاحتمالات
الإيجابية :
1 – إعفاء الموازنة
العامة للدولة من / 2 / تريليون و / 700 / مليار ليرة مخصصة لدعم المشتقات
النفطية، والشيء المؤكد أنه أمام ارتفاع أسعار النفط واضطراباته سوف لن يكفي هذا
المبلغ كله لتغطية حجم الدعم، فقد يتضاعف وينهش كل واردات الموازنة.
2 – الحد من استخدام
السيارات بهذا الشكل اللامعقول أمام ارتفاع تكاليف التحرك.
3 – التخفيف من
ازدحام السير وضغط المرور .
4 – التخفيف من تلوث
البيئة .
5 – الحد من ظواهر
الرعونة والتشفيط لأنها ستغدو مكلفة.
6 – إنعاش النقل
الجماعي.
7 – لفت الانتباه إلى
أسعار النفط العالمية ولاسيما نفط / برنت / الذي نعتمده ومتابعتها يوماً بيوم، لأن
هذا سيضع المستهلكين بصورة ما سوف يتكبدوه من تكاليف الاستهلاك، وبالتالي تتراجع
كثيراً – أو ربما تنتهي – حالة عدم الاكتراث السائدة اليوم، فلا أحد منّا يعرف
شيئاً عن متغيرات أسعار برنت ونعتبر أن هذا أمر لا علاقة لنا به، وفعلاً هو كذلك
لأن النفط يصلنا الآن بالسعر المدعوم وهذا ما يهمنا فترى الجميع يُفصّلون لك
الأسعار المتداولة هنا، أما برنت فإذا ارتفع أو انخفض سيّان ولا مشكلة.
8 – عدم إيصال الدعم
إلى من لا يستحق.
9 – وقف الهدر وحالات
الفساد الكثيرة الناجمة عن تعدد أسعار المشتقات المتداولة والتي تفسح المجال
للتلاعب والتهريب وما شابه
الاحتمالات
السلبية:
1 – زيادة الضغط على
النقل الجماعي بسبب إقلاع الكثيرين عن استخدام سياراتهم لما هو ضروري وغير ضروري،
وهذا يمكن تلافيه بتعزيز مكانة النقل الجماعي بتسهيلات وتشجيع أمام المستثمرين
لإقامة شركات النقل التي يمكن أن تتصدى بسهولة لمثل هذه المشكلة.
2 – ارتفاع أسعار المواد
والسلع بسبب زيادة تكاليف النقل الذي ستكون حساباته على السعر العالمي، ولكن أغلب
الظن أنه يُحتسب الآن هكذا وأكثر، ولذلك يمكن للدولة أن تتدخّل هنا بقوة لتحديد
أجور النقل بشكل فني دقيق ومنطقي، ومن يدري فقد تنخفض الأجور، ولكن حتى وإن ارتفعت
فالحل يمكن أن يكون من جانب آخر نأتي على ذكره لاحقاً.
3 – زيادة الأعباء
على الفلاحين الذين يستخدمون الوقود في الخدمات الزراعية.
4 – زيادة الأعباء
على الفقراء ومحدودي الدخل الذين قد يصعب عليهم بعد ذلك الاقتراب من أي شيء اسمه
وقود.
وما الحل
..؟
الحل بسيط جداً من
حيث الوجود مهما كان صعب التنفيذ، وهو اعتماد طريقة حقيقية واقعية وقابلة للتطبيق
هذه المرة تستهدف إيصال الدعم إلى مستحقيه، فالغاية من تحرير أسعار النفط ووقف
الدعم عنه، لا نقصد بها إيقاف الدعم بشكل كامل، وإنما فقط لإيقاف هذا النزيف
اللامعقول بأوردة الموازنة العامة للدولة الناجم عن دعم النفط، ويمكن الاستفادة
إلى حد كبير لتحقيق هذا الهدف من خلال البطاقة الالكترونية الذكية التي صارت
موجودة في كل أسرة، إذ يمكن من خلالها إيصال الدعم إلى مستحقيه، من خلال تخصيص
معونات أو سلع منخفضة القيمة لكل أسرة تستحق الدعم، أو حتى تخصيص مبالغ مالية يمكن
الحصول عليها إلكترونياً – أو حتى كاش – عبر تلك البطاقة.
صحيح قد تكون المسألة
صعبة وتحتاج إلى جهود استثنائية، فليكن .. ولماذا لا نبذل مثل تلك الجهود حتى نصل
إلى مثل هذه الغاية التي تنهشنا جميعاً دون أن نشعر بشكل مباشر بذلك.
فالقضية باختصار تغيير
مسار الدعم لا إلغائه، لاسيما وأن مسار الدعم عبر النفط لم يعد موضوعياً، وقد
أثبتت الوقائع أنه دعمٌ مفعم بالفساد والتلاعب والتجاوزات .. وصار لا بد من الوقوف
عند هذا الحد.