لا أدري لماذا كلما سمعت أن شركة "غاز بروم " الروسية أغلقت صنابير غازها إلى أوربا تذكرت طيب الذكر خالد العظم وعبارته المشهورة " نزل الخشبة يا ابني" فكم هما الحالتان متشابهتان وكم في ذلك من دروس بالسياسة و الاقتصاد . ولمن لا يعرف خشبة خالد العظم نقول إنه كان رئيساً للحكومة السورية لأكثر من مرة ووزيرا لعدد كثير من المرات خمسينيات القرن الماضي , وخشبته الشهيرة التي يتذكرها الكثير من السوريين هي ذلك الحاجز الخشبي الذي يرفع وينزل باليد ويمثل خط الحدود بين سورية ولبنان اللذين جمعتهما وحدة اقتصادية وجمركية لم تستمر طويلاً , لأن بعض اللبنانيين ورغم أن هذه الوحدة الجمركية كانت ظالمة لسورية التي كانت تستورد أغلب مستورداتها من مرفأ بيروت , هذا البعض وكما هي الحال هذه الأيام بل وفي كل الأيام , أثاروا الضجيج عبر الإعلام وهددوا سورية بالويل والثبور إن هي طالبت بتغيير نصوص الاتفاقية, مع أن لبنان كما نعرف جميعا محاط بسورية من كل الجهات وكأنه جنين في بطن أمه وما يجمع بين البلدين وأهلهما أكبر بكثير من أي حدود , وهذا ليس موضوعنا , المهم أن رئيس الحكومة السورية خالد العظم قرر إنزال الخشبة وإغلاق الحدود بين البلدين رداً على التهديدات التي أطلقها الإعلام اللبناني ومعاندة السياسيين اللبنانيين لإصلاح العلاقة الاقتصادية بين البلدين , وهكذا كان فنزلت الخشبة ووقع قادة لبنان واقتصاده في حيص بيص وكادوا أن يختنقوا إلى أن تم الافتراق بين اقتصادي البلدين , وكلنا نعرف اليوم حال لبنان واقتصاده . وعلى فكرة فإن خالد العظم سمي المليونير الأحمر لأنه أول من قام بتطوير علاقات سورية مع المعسكر الاشتراكي وشراء السلاح منه للجيش السوري.
واليوم تتكرر القصة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين , إذ أنه ومنذ بدء الحرب الروسية في أوكرانيا لاقتلاع النازية الجديدة منها , تتوالى عقوبات الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة على روسيا واقتصادها , ورغم أن العقوبات كانت ذات مردود سلبي على دول أوربا واقتصادها , إلا أن الضغوط الأمريكية مستمرة من أجل استمرار العقوبات والدعم العسكري والاقتصادي للرئيس الأوكراني زيلينسكي والمجموعات الموالية له . لقد أثرت العقوبات الغربية على دول أوربا بشكل كارثي وهي التي تعتمد في اقتصادها وحياتها على النفط والغاز الروسيين , وعلى عكس المطلوب لم ينهر الاقتصاد الروسي ولم يسقط الروبل , بل حلق عاليا أمام الدولار . صحيح أن روسيا لم تغلق الصنبور نهائيا ( للغاز والنفط) ولكنها تملك كل الحق بإغلاق الصنبور ووضع الشروط التي تلائمها لإعادة فتحه , فهل من المنطق أن أبيع ما أملك إلى من يعاديني ويسعى إلى خنقي ؟؟؟ إضافة إلى أن الزبائن في آسيا وبقية دول العالم متعطشون إلى النفط والغاز و الصين والهند أقرب إلى روسيا.. ..كلها حقائق تجعلنا ندرك أن الخشبة والصنبور كلاهما رد فعل حقيقي على ظلم الآخرين وعقوباتهم وتخرصاتهم .
الاقتصاد الأوربي مهدد بالانهيار وزعماء المجموعة الأوربية من داعمي العقوبات على روسيا يتساقطون واحدا تلو الآخر وكما قلنا سابقا لا أحد يعرف الدور على من مِنْ قادة أوربا , بل قد يكون الدور على بايدن الذي تنتظره قريبا انتخابات قد تطيح به وبحزبه , خاصة وأن التضخم والركود في اقتصاد الولايات المتحدة أصبح حقيقة واقعة وصارت معاناة الأمريكيين أمام التضخم والغلاء أضعاف ما كانت عليه قبل مجيء بايدن إلى السلطة .
وها هي الأيام تثبت أن ما قاله الروس منذ البداية هو الصحيح , لقد شكلت أوكرانيا خطرا على روسيا وكادت بالدعم الأمريكي والغربي لها أن تصبح عضوا بالناتو بما يهدد الروس في عقر دارهم و لا أعتقد أن ردة فعل الروس- المعروفين بأنهم وإن تأخروا في سرج جيادهم فإنهم عندما ينطلقون يصبحون في المقدمة- كانت غير عادية بل هم صبروا كثيرا على استفزازات أوكرانيا ومن ورائها بعض الدول الأوربية بقيادة الولايات المتحدة , ومع استمرار الحرب لا بد من رصد بعض القضايا الهامة التي يجب ألا تغيب عن بال المتابعين وأول هذه الأمور هو تحول أوكرانيا إلى دكان كبير لبيع السلاح الغربي بأنواعه المختلفة والخطرة إلى كل من هب ودب في العالم , وها هو إرهابي في إدلب المحتلة من عصابات الإرهابيين يعرض للبيع صاروخ جافلين المتطور بمبلغ 15000 خمسة عشر ألف دولار أمريكي وهذا نموذج للكارثة القادمة التي تنتظر العالم وتهدد السلم الأهلي بانتشار السلاح المتطور ووصوله إلى عصابات الإرهابيين والمنظمات المتطرفة المنتشرة في دول العالم , ومما سيعنيه انفلات سوق السلاح غير الشرعي كارثة تعني فيما تعنيه ازدياد الحروب والصراعات في دول آسيا وأفريقيا خاصة وأن نتائج الحرب في أوكرانيا والعقوبات التي فرضت على روسيا وما جرته من أزمات اقتصادية على العالم تجلت أكثر ما تجلت في نقص واردات الغذاء والقمح والزيوت إلى دول العالم الثالث مما يعني مع توفر السلاح المهرب من أوكرانيا مزيدا من الحروب والانقلابات وتهديد الأمن في العالم .
لقد ظن الأوربيون ومن ورائهم الولايات المتحدة أن العالم ما زال كما كان نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي وأن دول العالم مستباحة أمام الغزو العسكري وأن ما فعلته الولايات المتحدة ودول أوربا في العراق وأفغانستان وليبيا وسورية ممكن الحدوث من جديد وأنه يكفي فبركة مبررات كاذبة كتلك التي قدمها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول أمام مجلس الأمن ليتم اجتياح أي دولة وتدميرها ...لكن واقع الأمر يختلف كثيرا ولم تعد الولايات المتحدة تقود العالم كما كانت تفعل لسنوات طوال والأحداث الأخير تبرهن أن القطب الأوحد سقط سقوطا مريعا بعد أوكرانيا , فالصين تهدد باجتياح تايوان إن زارتها بيلوسي لأن ذلك سيكون تدخلا سافرا في شؤون الصين الداخلية . وكل من كان يطيع التعليمات الأمريكية , بدأ بالخروج عليها ولنا في استقبال بايدن مؤخرا في جدة وعدم رد رئيس الإمارات محمد بن زايد على هواتف الرئيس الأمريكي خير شاهد أن ما كان يسمى العظمة الأمريكية قد صارت في خبر كان وأن بايدن في زيارته الأخيرة إلى الشرق الأوسط قد فشل فشلا ذريعا في الحصول على دعم سياساته ضد روسيا ولم تؤيده بالمطلق إلا إسرائيل ومن يدور في فلك الولايات المتحدة من ( صغار الدول ) .
هل سترتجف أوربا بردا في الشتاء القادم ؟ يبدو أن استمرار العقوبات الغربية الظالمة على روسيا ستؤدي لا محالة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تكرار ما قاله من قبله خالد العظم ولكن ليس " نزل الخشبة يا ابني " بل " أغلق صنبور الغاز يا ابني " لنرى كم ستحتمل أوربا بدون الغاز الروسي ...وإن غدا لناظره قريب .
هيئة التحرير في محطة أخبار سورية - sns
|