كثيراً ما كنت أتساءل وأنا في المرحلة الابتدائية: لماذا كنا نخرج من قاعة الدرس إلى قاعة أخرى عند حلول موعد حصة التربية الإسلامية، بينما نبقى كتلاميذ متجاورين في المواد الدرسية المتبقية، كالقراءة والحساب والمحفوظات، وكان أشد ما يؤلمني بأنني كنت مضطراً للجلوس إلى جانب تلميذ آخر غير صديق عمري الذي مازال حتى الآن صديقاً مع بلوغ كلانا الخامسة والخمسين.. وأشياء أخرى كانت تتبادر إلى ذهني. ومع مرور العمر وتشكل الوعي المعرفي ودراسة التاريخ وقراءتي للقرآن الكريم والإنجيل المقدس، اكتشفت أن الله واحد، وأن ما جاءت به الأديان واحد، وأن أغلب الفوارق ونقاط الخلاف تعود للمفسرين، وليس لمتون الكتب السماوية، وأن أغلب التفسيرات الخلافية، كانت ذات صبغة متشددة أوجدها التعصب أحياناً، والمنافسة الزعامية في أحيان أخرى، خاصة عندما يتعامل المفسر مع نص قديم، وفقاً لزمن حديث، فيقارن فكراً تشكل قبل مئات الأعوام، مع الفكر السائد في عصر المفسر، وهذا ما حصل عندما فسر بعض المسيحيين التوراة الذي سبق الإنجيل بأكثر من ألف وثلاثمائة عام، وكرر ذلك البعض من المسلمين عندما فسروا الإنجيل المقدس الذي سبق القرآن الكريم بأكثر من ستمائة عام، حيث لم يتم ربط الثقافات بامتداداتها الزمنية الطبيعية، بل أخذ البعض كل كتاب بمعزل عن الآخر، متجاهلين عن خطأ أو عمد التطور الطبيعي للفكر الديني، كجزء من تطور المنطقة الواحدة التي أنتجت الكتب الثلاثة. ما أود قوله هو أننا في سوريا بعيدون كل البعد عن العصبية الدينية، ولا نحتاج إلى دلائل لإثبات ذلك لأحد، فواقع حياتنا اليومية العملية والاجتماعية وأماكن سكننا يؤكد ذلك، إذ من المصادفة أن تجد بناء واحداً لا يضم بين جدرانه مسلمين ومسيحيين، أو مجموعة أصدقاء إلا وبينهم ممن يعتنقون أحد الدينين.
عودة إلى المدرسة: من المفيد أن نعزز الشراكة في الحياة والوطن والمجتمع وفي كل شيء، ومن المفيد أن لا يشعر التلميذ في المدرسة أن هناك مسيحياً أو مسلماً يختلف من الناحية العقيدية عنه، وإن كان لكل معتقداته، وأن لا يضطر إلى تلقي درس مادة التربية الدينية، في غرفة صف أخرى، كما هو الحال الآن، إذ أنه من الملاحظ أن طبيعة الحياة السورية الاجتماعية والفكرية والسياسية والعقائدية، قد سبقت المناهج الدراسية في تطورها، وعلى المناهج اللحاق بركب هذا التطور، لا البقاء في حالة السكون التي هي عليها الآن.
ما العمل إذاً؟ إن المفاهيم والقيم التي تتفق عليها الأديان تفوق في تعدادها آلاف المرات عدد النقاط الخلافية التي تحدثت عن بعض أسبابها في البداية، ولذلك سيكون من المفيد إيجاد منهاج واحد للتربية الدينية، يجمع النقاط الاتفاقية بين جميع الأديان، ويبرز القيم الأخلاقية التي طرحتها الكتب والأنبياء الثلاثة، ولتترك الأجزاء الصغيرة الخلافية للمختصين باللاهوت، إذ أن الهدف من المنهاج هو تعميم المفاهيم الأخلاقية التي أمرنا بها الله سبحانه وتعالى على الناشئة، وليس إعداد جيل من رجال الدين بدءاً من المرحلة الابتدائية حتى الشهادة الثانوية، وأن نتعامل مع هذه المادة كما نتعامل مع غيرها، فهل مادة العلوم الطبيعية مثلاً تعد عالماً بيولوجياً، أو اللغة العربية تعد أدباء أو شعراء في المراحل الدراسية ما قبل الجامعية؟ ألا يقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم، وأولئك هم المفلحون)؟ فكيف سأؤمن بما أنزل من قبل الإسلام إن لم أطلع عليه وأتعلمه؟ ألم يقل السيد المسيح عليه السلام (ماجئت لأنقض النواميس)؟ فلا الفكر المسيحي حاول إلغاء اليهودية، ولا الإسلامي حاول إلغاء المسيحية واليهودية بل وضع شرطاً للمسلم كي يفلح بأن يؤمن بهما أيضاً، وهذه واحدة من آلاف النقاط الوفاقية التي أقصدها.
هل يمكن تطبيق ذلك؟ هذا قد يحتاج إلى عقول متنورة، ومتفتحة، من الجهات الدينية العليا في كل الأديان، تضع منهاجين دراسيين: الأول لمدرسي التربية الدينية، يشرح لهم الهدف من منهاج الطلبة، ويجيب على التساؤلات الخلافية التي قد تطرح في صفوف الدرس، إجابات وفاقية، خاصة في مرحلة التعليم الأساسي والثانوي. والثاني للطلاب، يشرح التعاليم الدينية الواحدة في الأديان الثلاثة، ليخلق فكراً توافقياً يتحول مع الزمن إلى ملكة يتصرف من خلالها كل سوري يعشق هذه الأرض، تحقيقاً لمقولة (الدين لله والوطن للجميع). فلنعزز وحدتنا الوطنية، ونزيدها رسوخاً.
أيمن الدقر ـ رئيس تحرير أبيض و أسود
|