نقيض الهجاء، يقع على قسمين مادي ولا مادي، وكلاهما في الجوهر تكسّب، الأول يختص في الطلب الروحي والعلاقة مع المضمون الكلي الأزلي السرمدي، والثاني مع المرئي المشاهد والمعاش المتفاعل معه بالوصل والاتصال والمتابعة، يختص به فئة ليست بالقليلة من الناس . حقيقي محترم يتقدم ويسمو حينما يمتلك المواصفات الظاهرة والمخفية في الشخص الفاعل ضمن محيطه، لذلك يستحقه فيعطى له ويرمى عليه ويستشهد به حيث يغدو مثلاً في مسيرة الحياة، يطمع به أي فاعل طامح ، يزيد الهمة ويستثمر النشاط، وعندما يحل التعب نستذكره فيسعد بما مُدح به، في شكله الدقيق يخصُّ الصفات، كلماته جوهر الثناء الذي يكون على ما يحمله الإنسان من أخلاق وسلوك إيجابيين؛ يظهران عليه في حلِّه و ترحاله وعمله وإنجازه وحركته وتحركاته، وحينما يراقب كل ذلك ويدقق نقول إنه يستحق المديح على ما فعل وعلى ما قال وعلى ما تصرف في الأداء والولاء . في اللغة، المديح :(ما يمتدح به الإنسان، ومدحه أثنى عليه بما آله من الصفات) وأدواته نِعْمَ (نِعْمَ العمل العبادة ) وحبذا (حبذا الأمانة وحبذا الإخلاص ) ينحصر المديح فيما يُستحسن من الأخلاق والأفعال النطقية اللامادية أي بمعنى أدق الحية في العقل والقلب الإنساني مثل رجاحة العقل والعفة والعدل والشجاعة والكرم واللياقة والأناقة واللباقة . لا يستحب سماعه لمجرد الإطراء الذي في غير مكانه أو تأييد الأقوى وتحفيزه بغير حق أو من أجل التكسب الأجوف أو استخدامه من أجل التدليس، فهذا كله من صور الخداع الباطل والزائل الذي لا عيش ولا حياة له ، مظهره طبيعي وكسبي وتكسّبي ووهمي، كل له أدواته الكثيرة، حيث اخترعت المعاني البراقة الخاصة به منذ القدم، بل يضيف عليها المداحون في كل يوم جديداً خاصاً بهم، لغتهم متوفرة بكثرة وكثيراً ما تحمل شاعرية الشعر تتناسب مع كل الصعد ودرجات البشر وتنوع طبقاتها، كثيراً ما يخص أولياء الأمور على اختلاف مشاربهم ومظاهرهم ومواقعهم مثل الأب والأم والأخ الكبير والأخت الغنية، وللقادة ورجال الأعمال ورجال الفكر وأرباب العمل، وغاية المداحين لهم الحصول على التقرِّب ونيل الحظوة ونوال المال والترقي في المراتب مهما كانت صور الولاة . يختلف المديح عن التشجيع الذي يعزز القدرات ويطور إدراك الهدف ويؤثر فيه، كما أنه يبتعد عن الثناء المختص حين الحصول على النتائج الإيجابية والتي ترضي فضول المتطلعين ويبتعد عن التعزيز، بكونه يحمل غاية شدِّ الأزر، وكل هذا لأن المديح الذي يقع في غير محله يهدم الآخر، فإذا اجتمعت الصفات التي ذكرناها فيه كان المديح خلاقاً ومحترماً وله يكال بالمثل، أي المديح بالمديح، أما إن كان تكسبياً وكان الممدوح ذكياً فلن يحصل المداح على شيء، حيث يعود بخفي حنين كما جرى مع صاحبنا هذا حينما دخل على أحد الأمراء وبقي في مدحه ساعات، حتى أصاب النعاس الأمير، فشكره وأمر له بمئة ألف درهم، عاد المداح في اليوم الثاني وذهب إلى خازن الأمير مطالباً إياه بالعطاء فأجابه بأن الأمر لم يصله وأن عليه أن يُحضر أمراً مكتوباً من الأمير، قابله وطالبه بما وعد وكانت الإجابة: مدحتنا بالكلام وأعطيناك بالكلام والكلام كلام والسلام . الإنسان الحقيقي لا يحتاج المديح بكونه يؤمن بأن ما يقوم به هو من جملة سلوكه وأخلاقه وواجباته المتكون عليها في أساس تكوينه وفي مضمونه، يتطلع لأن يكون مثلاً يحتذى به، وهذا ما يعيش في الطموح الإنساني الخلاق الفاهم لطبيعة وجوده، يحب الثناء وشدَّ الأزر والمواءمة والمؤاخاة، هذا النوع من الإنسان لا يحتاج النفاق في المديح، بل يسعى إلى النقض كي يكتشف أخطاءه ويتعلم إصلاحها، والكثرة من المراوغين العاطلين والنرجسيين ينشدون المديح. لنتفهم المعاني ونقرأ الكلام كي لا نصاب بالغرور والكلم، وما أكثرهم في بلادنا، إنهم أداة تخلف وتأخير لنتخلَّ عنهم ولنجتهد من أجل الصعود والتطور . د.نبيل طعمة
|