بقلم د.سامي الخيمي يسود الاعتقاد بين الباحثين بأن السكان الأصليين لسورية هم العموريون والكنعانيون الذين تعود حضارتهم الى نيف وخمسة آلاف سنة، تعاقبت خلالها على بلاد الشام أكثر من خمس وعشرين حضارة قبل أن تستقر في حضن العروبة الحميم. ويغلب الظن أن العموريين كانوا ذوي بنية قوية وبشرة فاتحة وقد جعلت ملامحهم الخاصة نفراً قليلاً من علماء الآثار يصنفونهم من العرق الآري، لكن معظم الآخرين يعتبرونهم ذوي منبت سوري اصيل ويعتقدون بأنهم كانوا يتواصلون باحدى اقدم اللهجات السامية في المنطقة. وتدل رقم عديدة اكتشفت في ايبلا وماري، وهما موقعان أثريان هامان في سورية ويعود تاريخهما الى ماقبل الألف الثالث قبل الميلاد، على ملامح امبراطورية سورية اصيلة ذات جبروت ورقي وحضارة، كانت تسيطر على سورية وبلاد ما بين النهرين والاناضول وفارس. وقد استجد في السنوات الأخيرة تغيير اساسي في نظرة المؤرخين للتاريخ القديم، تجلى على حد قول جوناتان توب من المتحف البريطاني، في "أننا اصبحنا نرى الآن العموريين يمتدون الى بلاد ما بين النهرين ويؤثرون على الاحداث هناك عوضاً عن الأمر المعاكس". وكان للعموريين مدن رئيسية أهمها ايبلا وآرام (حلب) وماري (ربما عاصمتهم الأولى) وبابل. وقد تمثلت انجازاتهم الرئيسية في انهم أدخلوا مفهوم حكم القانون واستبدلوا النظام السياسي القائم على ولايات المدن والموروث من العالم القديم بنظام الممالك. وبهذا لم يعد البشر والاراضي والماشية ملكاً حراً للآلهة والمعابد والملك بل أضحت الملكية مفتوحة للجميع، مما مهد الطريق لولادة مجتمع جديد مؤلف من المزارعين والمواطنين الاحرار والتجار المبادرين وهوالمجتمع الذي استمر بعد ذلك عبر العصور. وقد اصبح الشعب يومها لأول مرة في تاريخ الانسانية محكوماً بدولة القانون- قانون حمورابي ملك بابل العموري الذي اعتُمِد بحلول العام 1750 قبل الميلاد - بكلمة أخرى فانه لولا سورية ولولا العموريين لما كان هناك حمورابي البابلي ولا دولة القانون التي أرسى دعائمها. أما الكنعانيون (الذين سماهم الاغريق الفنيقيين) فقد كانوا الشعب السوري الاصيل الثاني والمماثل للعموريين، وقد كانوا يقطنون جنوب بلاد الشام وساحلها. نشأت كنعان كوحدة سياسية مؤلفة من كونفدرالية مرنة من ولايات المدن خلال الألف الثالث قبل الميلاد. وبرزت مدن الكنعانيين الرئيسية على شكل ممالك في دمشق ومدن بلاد الشام الساحلية من عكا الى صور وصيدا وجبيل وأرواد وأوغاريت وكذلك في فلسطين وصولاً الى قادش في سورية الوسطى. وتمثل الانجاز الرئيسي للكنعانيين بدون جدال في ايجاد أبجدية الكتابة الاولى المبنية على الحروف بالمقارنة مع النصوص السابقة القائمة على المقاطع اللفظية. وقد تم اختصار هذه الابجدية الكنعانية من قبل عموريي الألف الاول قبل الميلاد: الآراميون، لكي تصبح أساساً للغة الآرامية التي سادت كامل الشرق من مصر الى فارس طوال الف عام (لغة يسوع المسيح). بكلمة أخرى فانه لولا سورية ولولا الكنعانيين لما كان هناك اوغاريت وابجديتها الأولى التي انبثقت عنها جميع الأبجديات. وما وحد بكل تأكيد العموريين والكنعانيين كان اعتمادهم الرئيسي على التجارة فقد نجحوا خلال اكثر من الفي سنة في ادارة المعبر التجاري الى البحر المتوسط – بحر عمور( امورو) العظيم - مسيطرين على انتقال البضائع في المنطقة باكملها في البر والبحر من والى بلاد الشام. وتطالعنا ذكرى هاتين الحضارتين السوريتين الاصيلتين في انهن كانتا معتادتين على التعايش اذ ان الشعبين كانا يتبادلان الأكثرية والأقلية حسب المدينة المعنية دون أن يلجأ احدهما الى السيطرة الكاملة على الآخر او الغائه. هذا التعايش الأزلي الذي اعتمد دائماً على المنفعة التجارية والتسامح المتبادل، ربما انعكس ايجابأ على طريقة فهم السوريين لمعتقداتهم الدينية التي اعتنقوها لاحقاً في ازمنة تاريخية مختلفة. وقد يفسر ذلك عمق انتشار الدين الاسلامي الحنيف بمدرسته الوسطية المنفتحة في سورية ومنها الى العالم أجمع. وبالعودة الى الزمن الحديث، تبرزاليوم آفاق جديدة امام سورية لأول مرة في تاريخها المعاصر. فمن الواضح ان اوروبا واللاعبين الاساسيين على الساحة الدولية بدأوا يبدلون نظرتهم الى الشرق الأوسط ولم يعودوا يعتبرونه بالضرورة منطقة عازلة أو منطقة تماس بين الشرق والغرب بل مركزاً حضارياً واقتصادياً مكتملاً بحد ذاته. ومن المفيد هنا التأكيد على أن الوسيلة الوحيدة لكي تتصالح اوروبا مع تاريخها تكمن في تشميل سورية والشرق الاوسط ضمن التيار العام للنظام العالمي. التشميل أو التضمين (Inclusivity)يجب أن يكون اذاً الكلمة المفتاح بالمقارنة مع التجاهل أوالاستهانة. إن الشعب العربي في منطقة بلاد الشام المعروف تاريخياً منذ ايام اسلافه العموريين والكنعانيين بموهبته المتميزة في مجال المبادرة التجارية، يستطيع ان يحول بلاده الى مركز استقطاب للمبادلات التجارية. ان سورية تستطيع أن تصبح من جديد الممر الطبيعي الى المتوسط في منطقة يديرها ابناؤها حصراً وتقوم على مبادئ التنمية الاقتصادية وحكم القانون والتوافق الاجتماعي والديني. ولا ريب في أن الشلل العام الذي بات متفشياً لدى الدول العربية خلال وبعد عهد بوش الأسود، والخلافات التي انتشرت ولايزال بعضها مترسباً في الصفوف العربية، جعلت سورية تلجأ الى توسيع منظورها الاستراتيجي من خلال تمتين علاقاتها بالدولتين الهامتين تركيا وايران. وقد بدأت سورية تدرس اليوم امكانية انشاء تفاهم اقليمي جديد يكون له انعكاس اقتصادي وسياسي عام على جميع الأطراف المعنية ويمكن أن يؤدي، بعيداً عن سياسة المحاور، الى جعل شرقنا الاوسط لاعباً معترفاً به في السياسة الدولية، على نقيض الوضع الحالي الذي يجعله متلقياً للأجندات ومحاولات الإملاء الأجنبية. ان بلدنا يطمح إلى تشكيل تكتل مع العراق يُمكِن البلدين، بمساندة من محيطهما العربي، أن يكونا شريكين معتبرين في تفاهم رباعي مع كل من تركيا وايران. تفاهم يفرض معادلة جديدة في المنطقة ستكون بالتأكيد أكثر نجاعة في سعينا لاستعادة حقوقنا الوطنية والحضارية والاقتصادية. من الواضح انني حاولت في ما سبق ان أسلط الضوء على ارتباط حراك سورية السياسي الراهن بالجذور العميقة لتاريخها وحضارتها. وقد ذكرت العموريين والكنعانيين كمصدر الهام من اجل التطلع الى تموضع مستقبلي ايجابي لبلدنا في محيطه العربي وفي العالم.
|