سيرياستيبس كتبت الإعلامية نتالي عازار :
منذ عام 1978، شكّلت قوات الطوارئ الدولية في جنوب لبنان (اليونيفيل) عنصرًا أساسيًا في معادلة التوازن الدقيق بين إسرائيل ولبنان، وجدارًا واقيًا نسبيًا في وجه الانزلاق نحو مواجهة مفتوحة. لكن في الأسابيع الأخيرة، عاد ملف التمديد لمهمة هذه القوات إلى الواجهة، وسط تجاذبات دولية وإقليمية تعكس حجم هشاشة الوضع اللبناني وخطورة أي تبدّل في قواعد اللعبة.
مصادر دبلوماسية كشفت أن النقاش في مجلس الأمن حول مشروع قرار فرنسي للتجديد أظهر تباينات واضحة. فباستثناء الولايات المتحدة، أبدى جميع أعضاء المجلس دعمهم لتجديد مهمة البعثة الدولية، معتبرين أن الوضع الأمني في لبنان ما زال هشًا، وأن اليونيفيل تكيفت مع البيئة المتغيرة. الصين والجزائر طالبتا بانسحاب فوري للقوات الإسرائيلية من الأراضي اللبنانية المحتلة، فيما رأت واشنطن أن الظروف اليوم مختلفة عن العام الماضي، بما يتيح للجيش اللبناني الإمساك وحده بالجنوب.
في موازاة ذلك، صعّد وزير الخارجية الإسرائيلي بطلب مباشر إلى نظيره الأميركي لإنهاء مهمة اليونيفيل فورًا، بذريعة فشلها في منع تمركز "حزب الله" جنوب الليطاني. هذا الموقف جاء مدعومًا بما يُعرف بـورقة باراك، التي أكدت فشل اليونيفيل في ضبط تموضع الـ"حزب"، وهو ما يزيد من الضغط على واشنطن لتبني موقف صارم تجاه التمديد أو تعديل مهام البعثة. وبذلك، تصبح الورقة أداة إسرائيلية لتوجيه مجلس الأمن نحو قرارات قد تحدّ أو تقلّص دور القوات الدولية، ما يضاعف المخاطر الأمنية للبنان.
فرنسا، القوة الداعمة تقليديًا لليونيفيل، تواجه اختبارًا صعبًا وحساسًا كونها الراعي الأساسي للبعثة منذ تأسيسها. فاستمرار دعمها يحافظ على استقرار الجنوب، لكنه يثير غضب إسرائيل والولايات المتحدة، بينما أي تخلٍّ عن المهمة قد يفتح الباب لفوضى أمنية وتصعيد مباشر. من هنا، فإن أي تراجع فرنسي عن دعم التمديد سيشكل ضربة قوية للمنظومة الدولية في لبنان. باريس تجد نفسها مضطرة للموازنة بين الحفاظ على اليونيفيل كرمز لحضورها وركيزة للاستقرار الحدودي، وبين الضغوط المتزايدة من واشنطن وتل أبيب لإعادة النظر في مهام القوات الدولية أو تقليص دورها، وهو ما قد يدفعها لتليين موقفها إذا أصبح ملف اليونيفيل ورقة في المساومات الإقليمية. والسؤال ماذا لو لم يحصل التمديد؟ عندها سيكون لبنان أمام واقع أمني بالغ الخطورة:
• أولاً، سيفقد الجنوب المظلة الدولية التي حدّت نسبيًا من التوترات.
• ثانيًا، سيجد الجيش اللبناني نفسه وحيدًا في مواجهة تحديات ربما تفوق إمكاناته اللوجستية والعسكرية. الجيش قد يطلب عندها مساعدة من جيوش دول أخرى، لكن أي تدخل خارجي سيكون خاضعًا لموازين القوى السياسية الداخلية ولحسابات إقليمية ودولية معقدة.
• ثالثًا، "حزب الله" سيكون المستفيد الأول من غياب اليونيفيل، إذ سيحظى بحرية أوسع في إعادة تموضعه وبناء قواته ونشرها جنوب الليطاني، ما يعزز موقعه في معادلة الردع مع إسرائيل، وحكما في المعادلة الداخلية.
في حال عدم التمديد، يمكن لـ"حزب الله" أن يحقق عدة مكاسب:
• ترسيخ حضوره العسكري جنوب الليطاني من دون إزعاج دولي.
• تعزيز سرديته بأن المقاومة هي الضامن الحقيقي لردع إسرائيل، لا المجتمع الدولي.
• استخدام الانسحاب الدولي كورقة دعائية داخلية لتأكيد فشل خصومه الذين راهنوا على "حماية" الأمم المتحدة.
• توسيع نفوذه في بيئته الحاضنة من خلال تصوير نفسه كقوة وحيدة في مواجهة أي عدوان محتمل.
الجيش اللبناني، في غياب اليونيفيل، سيُطلب منه السيطرة على منطقة واسعة تمتد من نهر الليطاني إلى الحدود مع فلسطين المحتلة. لكن إمكاناته المحدودة، سواء من حيث العتاد أو التمويل أو القدرات البشرية، تجعل هذا السيناريو شبه مستحيل. وحتى لو طلب مساعدة دولية، فإن أي دعم عسكري مباشر سيصطدم بعقبات سياسية داخلية، حيث سيرفض "حزب الله" أي وجود عسكري أجنبي قد يقيّد حركته.
المعادلة واضحة ولو كانت معقّدة: بقاء اليونيفيل يمنح لبنان وقتًا مستقطعًا وحاجزًا سياسيًا أمام التصعيد، بينما رحيلها يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التوترات المتفلّتة التي ستضع الجيش اللبناني في موقع لا يُحسد عليه، وتمنح "حزب الله" مساحة أكبر لتكريس نفوذه. إسرائيل من جهتها ستعتبر أن خروج اليونيفيل فرصة لتبرير أي عمل عسكري "وقائي" ضد مواقع الحزب.
إنها لحظة مفصلية للبنان: فإما السيّئ او الأسوأ، بمعنى أن يبقى تحت مظلة دولية هشّة لكنها واقية نسبيًا، أو يدخل مغامرة أمنية غير محسوبة قد تكون أثمانها أكبر من قدرة الدولة على تحمّلها.
اخبار البلد
|