رؤية المحامي مأمون الطباع
****************************************************************
أنا مواطن مستور ، كنت أعمل في دائرة شؤون العاملين لدى إحدى الجهات العامة ، و قد أُحلت إلى التقاعد منذ سنتين ، و تفرغت لقراءة الصحف اليومية السورية و مشاهدة الأقنية التلفزيونية الثلاث ، وسماع محطات الإذاعة السورية و محطات الـ ( أف-إم ) الخاصة ، و لا شيء ينغص حياتي و الحمد لله لأنني مستور و قنوع ، و قد زوّجت ابني الوحيد و خصصت له غرفة في منزلي ، كما زوّجت ابنتي الكبيرة لشاب خلوق يسكن عند أهله ، و بقيت الإبنة الصغيرة و هي الآن طالبة في كلية الفنون الجميلة.
تسليتي الوحيدة الذهاب مساء كل يوم – عدا يوم الجمعة – إلى مقهى الكمال حيث أجلس مع بعض زملائي المتقاعدين و نناقش ما قرأناه و ما سمعناه ، و نستذكر أيام الوظيفة و نستعرض المدراء الذين تعاقبوا علينا و كيف كانوا طيبين و من ذوي الخلق الحميد ، و نشكر الله أن الإدارة التي عملنا بها لم تكن على صلة بالمال و المناقصات و البيع و الشراء ، كما أن التجار و المتعهدين لم يسمعوا بها ، الأمر الذي ساعد على تحصيننا نحن و المدراء من الإنزلاق إلى مهاوي الفساد.
ذات يوم جلس إلى جوارنا ثلاثة شبان من أصولٍ ريفية ، و كانوا يتحاورون بصوتٍ مسموع و قد فهمنا أنهم حصلوا على شهادات جامعية ، و يبحثون عن عمل ، و يقيم كل واحدٍ منهم عند قريب أو صديق يسكن في بيتٍ متواضع يقع ضمن حزام البؤس المحيط بدمشق.
قال الأول:
لقد عفتُ حياتي و بدأت أفكر بالإنتحار فأنا أحب قريتي و أشتاق لأهلي و لشجرات الجوز و التوت ... لكن لا يوجد ضمن دائرة 50 كم من ضيعتي منشأة صناعية أو إدارة حكومية تحتاج إلى شهادتي أو عضلاتي، لذلك قصدت العاصمة لأن عدداً لا بأس به من أقاربي و وجهاء قريتي تسنموا مواقع هامة في العاصمة آملاً في مساعدتهم لي ، و قد استقبلوني ببشاشة و قدموا لي وعوداً معسولة ، و إثر تكرر زياراتي لهم أخذوا يتهربون منّي و كأنني حشرة.
قال الثاني :
أنا لا أعرف أحداً في هذه الدنيا سوى أهل قريتي القابعة على طرف الصحراء السورية حيث يعيش الناس على رعي الأغنام و التكسب من حليبها و صوفها ، و على ما تقدمه لهم الأرض من حبوب تسقيها الأمطار الموسمية ، و المشكلة أنني حتى لو رغبت في العمل هناك فإن أشقائي الثلاثة يعملون لعدة ساعات يومياً ، و يقضون معظم أوقاتهم بشرب المتّة و يتناسلون بغزارة.
لقد نصحني البقال أبو محمود أن أقدم طلباً للعمل في المحافظة لجمع القمامة ، فالأجر مغرٍ ، و لا توجد منافسة على مثل هذه الأعمال ، و أن ما هو مطلوب منّي أن أرافق شاحنة القمامة الآلية ، و أربط الحاويات في مؤخرة الشاحنة ، و هكذا دواليك ... أي ( لا كريك و لا مقشة و لا ما يحزنزن ) .. و بعد أن تقدمت بالطلب انتحى بي أحد السابلة المتمترسين أمام باب الإدارة و طلب مني خمسة آلاف ليرة سورية ليؤمن الموافقة على طلبي . و قد اقترضت هذا المبلغ من البقال الطيب و بدأت العمل بكل سرور ، و بعد ثلاثة أشهر أعلمني رئيسي أن عقدي المؤقت قد انتهى ، و علي أن أقدم طلباً جديداً .. فهرولت غاضباً و إذ بالسمسار ينتصب أمامي و يطلب منّي خمسة آلاف ليرة لأعود إلى العمل ، لكنني رفضت العرض وعدت إليكم .
قال الثالث:
أنا من بلدة صغيرة يعيش أهلها على الخدمات الميكانيكية اللازمة للمعدات الزراعية والسيارات ، وليس فيها مصالح حكومية ذات شأن ، و أحمل إجازة في التاريخ ، و لا يوجد لي عمل في هذه البلدة ، لذلك قصدت العاصمة عسى أن تجد لي وزارة التربية عملاً في إحدى مدارسها ، و قد فشلت فشلاً ذريعاً خاصة و أن الآلاف من خريجي التاريخ و الجغرافيا و الفلسفة ينتظرون بفارغ الصبر تقاعد الآلاف من المدرسين ليأتيهم الدور ... لقد سئمت من نفسي و سئم الجيران من أحاديثي عن تاريخنا الغابر الناصع لأن هموم الحاضر و المستقبل أرهقتهم. و ما عادت انتصاراتنا و هزائمنا تعنيهم ، لذلك أفكر بالهجرة إلى موريتانيا لأنني علمت أن أهل هذا البلد يعشقون التاريخ العربي الإسلامي ويقدرون من يقدر هذا التاريخ.
*** *** ***
شعر الشبان الثلاثة أننا نصغي إلى حوارهم ، و بحركة بسيطة من مجموعتينا اندمجت الطاولتان ، ودعوت الجميع إلى كأس شاي إضافي ، و بادرت بالحديث قائلاً:
لقد أنهيت دراستي الجامعية و حصلت على الإجازة في الحقوق عام 1966 و إشتركت إثر ذلك في مسابقة أعلنت عنها إحدى الإدارات العامة ، و كان الفحص تحريرياً فقط دون مقابلة شفهية ، و تم تعييني بعد خمسة أشهر من تخرجي ، و حصلت على راتب قدره ( 375 ) و مرتبة معاون رئيس شعبة.
كان مصروفي الشخصي يبلغ حوالي ( 50 ) ليرة سورية و أقدم مساعدة لوالدي مئة ليرة سورية ، وأدخر الباقي ، وبعد سنتين بلغ ما أدخرته سبعة آلاف ليرة سورية ( آخذاً بالاعتبار التعويضات والمكافآت) واشتريت طابقاً على الخارطة في منطقة العدوي بمساحة قدرها مئة و خمسون متراً ، وسددت الباقي على أقساط شهرية ، وبعد خمس سنوات من العمل استلمت الطابق.
خطبت لي والدتي عروساً موظفة راتبها الشهري 250ل.س في الوقت الذي أصبح فيه راتبي 450 ل.س . قمنا خلال فترة الخطبة بتأسيس البيت نقداً و بالتقسيط ، و بمبلغ إجمالي قدره سبعة آلاف ليرة سورية ، وفي مطلع عقد السبعينيات كنّا قد سددنا جميع الأقساط ، و لدينا بيت مفروش و طفل صغير ، وبدأنا ندخر كل شهر مبلغ / 400/ ل.س ، و خلال عام 1976 استوردت مؤسسة أفتوماشين سيارات غولف ألمانية بسعر 32 ألف ليرة سورية للسيارة الواحدة ، و كان ينقصنا لسداد هذا المبلغ حوالي عشرة آلاف ليرة سورية، وحصلت على قرض بضمانة راتبي ، و اشتريت السيارة ، و بهذا الشراء اكتملت فرحتنا ، وأصبح بإمكاننا الذهاب إلى مضايا و بلودان و الساحل السوري لعدة أيام كل ثلاثة أشهر ، و قضاء يوم الجمعة في أحد المنتزهات القريبة ، و دعوة الأصدقاء و الأهل إلى منزلنا لتناول العشاء ، و بذلك توسعت حلقة علاقاتنا الإجتماعية .
لكن في منتصف الثمانينات بدأت القوة الشرائية لراتبينا ( أنا و زوجتي ) تتناقص ، مما اضطررنا إلى بيع سيارة الغولف بعد استعمالها عشر سنوات بمبلغ خمسمئة ألف ليرة سورية ، و وضعنا هذا المبلغ في المصرف العقاري و حصلنا على فائدة 9% منه أي حوالي ( 45 ) ألف ليرة سورية ، و بدأنا نشطب من متعنا بنوداً عديدة مثل زيارة الساحل السوري أو قضاء عدة ايام في بلودان ، و اكتفينا بمشاوير الربوة و عين الخضرة كل يوم جمعة ، مصطحبين طعامنا معنا ، و قبل تقاعدي أنا و زوجتي أصبح دخلنا الشهري يكفي لإطعامنا و دفع مصاريف المواصلات و الهاتف و الكهرباء و الماء و الملابس ، و بعد التقاعد شطبنا جميع البنود الترفيهية ، كما لم تعد اللحمة صنفاً رئيسياً في طعامنا و حل محلها البطاطا والزهرة و الكوسا و اليقطين و البرغل و الرز .
و بذلك جنبتني الظروف الإقتصادية في بلدنا أمراضاً مثل تصلب الشرايين ، و الكولسترول ، و الأملاح وتركتني رشيقاً أسير كل يوم أكثر من 10 كم ، و بالتالي أوفر لعائلتي أجور المواصلات ، كما جعلت هذه الظروف زوجتي في صبا دائم.
تدخل صديقي الأول قائلاً:
أنا لم أتمكن من دخول الجامعة إذ لم يكن بإستطاعة والدي الصرف عليّ ، و قد بلغت سن الشباب. لذلك إثر حصولي علي البكالوريا عملت موظف ديوان ، و تعلمت أصول البريد الوارد و الصادر ، و كان راتبي عندما دخلت الوظيفة بحدود مئتي ليرة سورية . يأخد والدي نصفه و أصرف الربع و أدخر الربع الآخر إلى أن تمكنت من جمع مهر العروس ، و سكنتُ عند أهلي في غرفة مناسبة . و قد توفي والدي وتزوجت أخواتي البنات ، و بقيت في البيت أنا و أخي الآخر ، و قد تمكنت أنا و أخي من شراء سيارة سوزوكي ، كان أخي يعمل عليها في النهار و أنا في المساء ، و بذلك تغلّبنا على مصاعب الحياة المادية ، خاصة و أن راتبي مع التعويضات أصبح 500 ل.س ، الأمر الذي ساعدني على إدخال أولادي في الجامعة . الأول: أصبح مهندساً يعمل في إحدى الدوائر الحكومية ، و الثاني: جيولوجياً يعمل في شركة النفط ، و تزوجت الإبنتان و أصبح عندي عدد من الأحفاد أفرح بهم كلما زاروني . و قد اشترك الإبنان في جمعية سكنية في الجديدة ، و حصلا على منزلين لائقين ، و تزوجا بشقيقتين تعملان في قطنا.
الحمد لله على الصحة و نظافة اليد و راحة البال.
تدخل صديقي الثاني قائلاً:
أنا لست دمشقياً فوالدي من قرية قرب حلب ، و كان موظفاً ، و نُقل إلى دمشق في الخمسينيات ، وأستأجر منزلاً جميلاً في حي المزرعة تبلغ أجرته سنوياً مبلغ 800 ل.س و كان راتبه الشهري حوالي 400 ل.س ، أي أن أجرة البيت السنوية كانت تشكل راتب شهرين فقط ، و عشت بعزٍ و رخاء ، و توفي والدي و بقيت في البيت مع والدتي التي توفيت منذ خمس سنوات ، و أختي التي تزوجت و أنجبت أولاداً.
و إثر صدور قانون الإيجارات الجديد فاوضني المالك على الإخلاء و حصلت على 40% من قيمة البيت و قبضت حوالي سبعة ملايين ليرة سورية ، اشتريت بها بيتين صغيرين في الجديدة ، الأول لي ، والثاني لابني الذي سوف يتزوج قريباً . الحمد لله على السترة و رضا الوالدين.
عند هذا الحد تنهد الشباب الثلاثة و صرخ أحدهم بألم:
لمَ أتينا إلى الدنيا بعدكم بأربعين سنة ؟
لمَ نضطر إلى مغادرة قرانا و بلداتنا طلباً للرزق ؟
لمَ نغادرها و نترك أهلنا و قلوبنا هناك ؟
قال الشاب الثاني:
لهذا السبب كان لديكم الوقت الكافي للقضايا الوطنية و القومية .. لهذا السبب تحفظون الشعر و تقرؤون .. لهذا السبب لم تتعرفوا على الفساد و الفاسدين و المفسودين ... ولم تهدروا كراماتكم على أبواب الدوائر الحكومية .. لا تقولوا أنكم شرفاء و كافحتم حتى توفرت لكم الحياة الكريمة.... قولوا أنكم ولدتم في زمنٍ أفضل.
قال الشاب الثالث:
المشكلة ليست بهم و بنا ، و ليست منهم و منّا ... المشكلة أن الدولة التي لا تضع خططاً اقتصادية لصالح الشريحة الكبرى من المجتمع لا تنتج إلاّ شباباً يائسين مثلنا.
لقد ذلّنا المخططون الإقتصاديون الجدد ، إذ لم يفكروا بذوي الدخل المحدود ... لم يفكروا بأبناء الريف الذين يشكلون ثلاثة أرباع المجتمع ... لقد شغلتهم المشاريع المبهرة الدعائية عن هذه الشريحة .. لقد وظّفوا القروض و المعونات لصالح الفئة النهمة التي لا ترحم...
شغلهم إعمار المنتجعات ، و بناء القصور على الساحل ، و الفنادق عشر نجوم ، و الجامعات الإفتراضية، و المشاريع العقارية لذوي الدخل غير المحدود ، ومؤتمرات المصرفيين عن هموم الريف و أبناء الريف ... علماً بأن نسبة كبيرة من هؤلاء المخطّطين و المنفذين من أبناء الريف .. آه و الف آه منهم ... ليتهم لم يوسّعوا مداركنا بافتتاح المدارس والجامعات .. ليتهم تركونا على فطرة الريف قانعين بجهلنا و رزقنا المحدود بدلاً من أن نستجدي الإستعلائيين و المتكبرين للحصول على وظيفة ، علماً أن قسماً كبيراً منهم أتوا من الريف و أنستهم المرسيدسات و المنتجعات الخاصة هموم أبناء عمومتهم و خالاتهم و عماتهم ... آه ... آه... لكنهم لم ينسوا ترديد الشعارات التي أوصلتهم إلى مناصبهم .
انسحب الشباب .. و علق صديقي رئيس الديوان السابق: ... إنها مشكلة ... تشبه مشكلة البريد الصادر والوارد الذي زيّنته في الحقبة الأخيرة عبارات مثل: لإجراء اللازم .. موافق أصولاً ... موافق في حال توفر الشاغر ... تشكل لجنة لدراسة الموضوع .... لإجراء المقتضى .. ترفع للسيد الوزير ... ترفع لسيادة رئيس مجلس الوزراء... برجاء التوجيه .
و تدخل صديقي الثاني قائلاً:
ترفع إلى رب العالمين فهو المعين و به نستعين على المخطّطين الإقتصاديين و السياحيين ....
و هواة العناوين و الصور ..... و لا حول و لا قوة إلاّ بالله
المصدر:
http://syriasteps.net/index.php?d=160&id=169