الدومري: القصة الحقيقية
29/08/2007



لم تكن الدومري مشروعاً أهلياً مستقلاً بقدر ما كانت مشروعاً حكومياً مدعوماً بامتياز، أما صاحب المشروع الحقيقي فهو الصحفي وضاح عبد ربه وليس الفنان علي فرزات..

 

والحكاية من أولها أن وضاح عبد ربه كان يصدر ملحقاً ساخراً لمجلته «الشهر» بعنوان: المضحك المبكي ويشرف عليه الصديق عصام داري، وقد قال لي في مكتبه القديم بشارع العابد، أنه طلب من الرئيس بشار الأسد ترخيصاً لجريدة نقدية ساخرة باسم المضحك المبكي مرفقاً طلبه بنسخة تجريبية من إعداد عصام، وأضاف أن الرئيس استحسن الفكرة وقال بأن مشروعاًكهذا يحتاج إلى أشخاص مثل علي فرزات ونبيل صالح.. وقد تأثرت كثيراً لهذا الكلام لكونه جاء في الوقت الذي كان فيه رئيس الحكومة مصطفى ميرو ووزير الإعلام عدنان عمران قد استهلا عملية الإصلاح الإعلامي بتوقيفي عن الكتابة في جريدتي «تشرين».. وفي التفاصيل أننا بعد أيام التقينا ثلاثتنا: وضاح وعلي وأنا بممثل الرئيس وتناقشنا مطولاً حول طبيعة المشروع وآفاقه والمشاركين فيه، وقد فوجئنا جميعاً بأن الصديق علي فرزات ليست لديه رؤيا لمثل مشروع كهذا، لذلك تعهدت بكتابة دراسة حول هوية المشروع واستراتيجيته مع التفاصيل وقائمة بكل كتاب السخرية في سورية، وقد نالت الدراسة موافقة القصر والقيادة القطرية.. وأذكر أن الصديق فرزات قد سعى خلال الاجتماعات الثلاثة الأولى مع ممثل القصر إلى الاستئثار بالمشروع واستبعاد وضاح، وكان له ذلك، حيث اعتذر وضاح بعد أن مالت الكفة إلى جانب علي.. ‏

 

في البداية كان الوعد أن يكون الترخيص باسمي واسم علي فرزات، وأن يكون لي نسبة 40% من أسهم الجريدة، غير أني طلبت التريث والاكتفاء براتب شهري إلى أن نتبين شكل المشروع وهويته، وهل فعلاً ستسمح لنا الحكومة بانتقادها ضمن حدود خطاب القسم.

 

 

أول اجتماع للمضحك المبكي كان في بيتي بالمزة وقد حضره ممدوح عدوان وعلي وأنا، ومن ثم استمر العمل في مكتب علي بشارع الباكستان ثلاثة أشهرلإنجاز الأعداد الثلاثة الأولى من جريدة (النحلة) كما كان علي يرغب بتسميتها، إلى أن اقترح أخوة أسعد فرزات اسم (الدومري) ومن ثم فوجئنا أن الترخيص باسم الفنان أسعد فرزات لأن علي فرزات لا يحمل شهادة جامعية كما ينص قانون الإعلام الجديد ـ القديم.. ‏

 

أول نصف مليون أخذها علي فرزات (من ممثل جهة رسمية رفيعة) كان بحضوري مع وعد بمبلغ شهري مماثل لدعم الجريدة (التي ستعوض السوريين عن 40 عاماً من التأميم الإعلامي!).. وأثناء العمل جلبت معي ثلاثة أعداد من جريدة الكاريكاتير الفرنسية الأسبوعية (شارلي) وقد استعرتها من الصديق غازي أبو عقل المشترك الوحيد فيها من سورية، ومن شدة إعجاب علي بالجريدة طلب أن نرسم الماكيت على منوال «شارلي» (التي بدأت بالصدور في عهد شارل ديغول وكانت تسميتها للسخرية من اسمه) كما طلب علي أن نفصّل مواد التحرير قياساً على مساحة زواياها وشكلها الإخراجي.. ولم ينفع شرحي له بأن السخرية السورية والمتلقي السوري مختلفان عن الفرنسي، وأني جلبت الجريدة للاستئناس بتجربتها وليس لاستنساخها..لقد كان علي يتخيل أن الجريدة هي جريدة للكاريكاتير وأن الكتاب ملحقون برسوماته، يكتبون ما يناسبها في السياسة والرياضة وكل شيء!؟ ‏

 

كنا نقضي وقتنا في العمل منذ الصباح حتى الواحدة ليلاً، وخلال معايشتي لعلي اكتشفت صفاته الحميدة وغير الحميدة، وتبينت صفات لن تساعد على استمرار المشروع، وأولها استبداده برأيه، وبخله، وضعف ثقافته، واستخدام عائلته في إدارة المشروع، وكانت هذه الصفات سبباً في هروب جميع الكتاب المحترفين الذين عملوا معه فيما بعد.. فبعد ثلاثة أشهر وإنجاز ثلاثة أعداد على الماكيت طلبت اجتماعاً لكل المشاركين في تأسيس الدومري وشرحت رأيي وأسباب انسحابي من المشروع الذي توقعت نجاحه ومن ثم سقوطه قبل نهاية ستة أشهر من عمره. وقد أحرج علي من صراحتي أمام الجميع بمن فيهم ابنه وصهره وأخوه أسعد والشاعر اللبناني يحيى جابر الذي حاول إثنائي عن قراري ثم بعد أشهر هاتفني من بيروت ليعلن لي أن الدومري تحولت إلى (زبالة). ‏

 

إطلاق الدومري رافقته حملة إعلانية طرقية مجانية لصالح (صاحبها) علي فرزات الذي ذيل اسمه أسفل الافتتاحية التي كتبتها أنا للعدد الأول وشارك فيها: حسن م.يوسف ـ وليد معماري ـ لقمان ديركي ثم أعدت صياغتها بأسلوبي المعروف، وقد تساءلت وقتها لماذا يحتاج شخص مشهور ومحبوب ولديه مكاسب السلطة وفضائل المعارضة إلى أن يدعي كتابة افتتاحية ليست له، خصوصاً وأني استهللتها بجملتي المعروفة من أن (أفضل طريقة لإصلاح العالم هو السخرية من أخطائه) وكنت قد استشهدت بالجملة حرفياً في تصريح للصديق ابراهيم حميدي ونشره في جريدة «الحياة» حول رؤيتي لمشروع الدومري قبل صدورها بشهر!؟ ‏

 

وكان الجواب الذي وصلت إليه هو أن علي فرزات قد تضخمت أناه إلى درجة لم يعد يرى أحداً غيره، وكان هذا هو السبب فيما بعد لانسحاب حسن م.يوسف، وأسعد فرزات، وعدنان فرزات، ونجم الدين سمان، ولقمان ديركي، وابراهيم جبين، وعمار مصارع، وبقية الكتاب الذين عملوا معه باستثناء طلاب الجامعة، الذين كانوا يشتغلون بأجور زهيدة مقابل مواد اخبارية تفتقر إلى الحرفة والمصداقية، الأمر الذي دفع بالدومري نحو الهاوية وراح الناس ينفضون عنها بعد الشهر الرابع واضطرت مؤسسة المطبوعات إلى دعمه بالتوزيع من دون مرتجعات، أي أنها كانت تحمل خسائر الكساد من ميزانيتها.. وقد أخطأ بحقي حينها بنشره مقالة لصاحبة جمعية المنهل التعاونية السكنية التي كنت قد أدخلتها السجن وساهمت بإصدار قرار حجز احتياطي على أموالها تحقيقاً لمبلغ 250 مليون ليرة. حيث نشر لها مقالة في الدومري بعنوان (امرأة مظلومة) ثم تبين أن أم المنهل قريبة صهر علي وأنه وعدها بالتوسط لدى القصر لإخراجها من سجنها.. ووقتها أحسست بالغضب وكتبت عنه مقالة بعنوان (كيف هوى الذي كان مثلنا) وقد تخوف وزير الإعلام عدنان عمران من نشرها في وقت كان حتى رؤساء الفروع الأمنية يطلبون ود علي فرزات ويتقربون منه نظراً لرعاية الرئيس له وإعجابه به . وهكذا اتصل الوزير بأمين االتحرير وصرخ بوجهه مؤنباً وقال له أنه إذا أراد نشرها فعلى مسؤوليته هو (أمين التحرير هشام بشير) وكان رئيس التحرير وقتها مسافراً.. المهم أني تركت مقالتي وسافرت إلى اللاذقية حيث اتصل بي د. خلف الجراد بعد أسبوع وقال لي بأنه سينشرها ولكن بعد حذف اسم علي والدومري منها!؟ فوافقت، وبعد النشر حصلت ضجة كبيرة على المقالة بين مؤيد ومعارض.. ‏

 

الآن وبعد مرور هذه السنوات، اعتقد أني صرت في حل من وعدي بكتمان القصة الحقيقية لتأسيس الدومري، أضف أني استأت كثيراً لسماع الصديق علي فرزات على شاشة الجزيرة، عندما سئل عن مصدر تمويل الدومري.. فقال إنه كان يدخر 17000 دولار، وقد بدأ بها المشروع.. والحقيقة أن علي فرزات كان يملك عشرة أضعاف هذا المبلغ ولكنه لم يصرف منه فلساً واحداً، وكانت جريدة الثورة تطبع الدومري حتى تراكمت فواتيرها أكثر من مليونين ولم يسددها فاشتكت عليه إلى مجلس الوزراء.. ولا أعلم فيما إذا كان برأ ذمته.. ‏

 

ما تقدم هو ما أوصل علي فرزات إلى خانة اليك وإلى الخسائر المادية والمعنوية فتوقف عن الصدور ثلاثة أشهر حيث استغلت حكومة ميرو القانون لإلغاء ترخيص الدومري، وقد قام علي بعدها بحركة أخيرة، قوية، ولكنها يائسة، حيث جمع حرافيش السخرية في سورية وعهدهم بالدومري من دون تدخله (وهذا ما كان يجب أن يفعله في البداية وليس في النهاية) فخرجوا بعدد ممتاز، ولكن بعد إعلان الوفاة رسمياً وشعبياً.. لقد امتص علي شغف السوريين إلى صحافة خاصة ثم بصقه، فارتد سلباً على الصحف الخاصة التي صدرت بعده.. ‏

 

بعد توقيف الدومري وانحسار الغطاء الرسمي عن جسد علي فرزات قامت إدارة «تشرين» آنذاك بحركة سيئة تجاه مبدع سوري كعلي فرزات حيث أفردت صفحتين لشتيمته بشكل غير فني.. وقد استأت كثيراً من هذه الحركة غير الموفقة ضد فنان أعطى هذه الجريدة من إبداعه طيلة سنوات، حتى أنه في استفتاءات قرائها، كان كاريكاتيره يأخذ أعلى الأصوات بالتوازي مع زاوية «وخزات» اليومية التي كنت أنشرها في تشرين حينها. فعلي رغم ما تقدم يبقى علماً من أعلام سورية، وهو رسام كاريكاتير عالمي بامتياز لم يبزه (بعد وفاة ناجي العلي) أي رسام عربي، وعلى مؤسساتنا الثقافية أن تعيد له الاعتبار، كما يتوجب عليه أن يكون قد اتعظ من تجربته التي خسرنا فيها جميعاً ولم نربح منها سوى الضوضاء.

 

 

 

 

نبيل صالح

 



المصدر:
http://syriasteps.net/index.php?d=160&id=183

Copyright © 2006 Syria Steps, All rights reserved - Powered by Platinum Inc