كان للتاريخ حتى الآن تجارب عديدة مع البشر، الذين استيقظوا بعدما كانوا على وشك الموت أثناء استعدادهم للدفن، فيسردون قصصا غريبة ومدهشة بعد سنوات مما تذكرون ما حدث لهم. فهل هذه القصص هي مجرد تخيلات أم أنها ظاهرة غامضة لايملك العلم أي جواب لها؟
هناك افتراض يعتبر أن التفاعلات الكيميائية الحيوية داخل الدماغ والتصورات الحسية هي التي تُولد هذه "الرؤى" في وقت يوجد فيه الجسد تحت توتر استثنائي يستشعر فيه خطر الموت الداهم.
ونشرت مجلة "جولي" النسائية الألمانية تقريرا عن تجربة غريبة عاشتها "كريستين س." حين كان عمرها 19 عاما، إذ فقدت وعيها بعد حادثة سير، فتوقف قلبها عن الخفقان وعاشت بعدها -على حد قولها- "تجربة الاقتراب من الموت"، وذلك وفقا لتقرير للكاتب حسن زنيند في موقع "دويتشه فيله".
هذ الحدث غيّر حياة كريستين رأسا على عقب، وقالت "رأيت جسدي على طاولة العمليات في المستشفى بصدر مفتوح.. نظرت إلى نفسي من الأعلى.. سمعت الجراحين يقولون أسرعوا.. سنفقدها.. لم أكن أشعر بأي شيء.. كنت مندهشة فقط.. بعدها رأيت نورا رائعا، وأحسست فجأة بأرضية دافئة وناعمة تحت قدمي العاريتين.. جاء جداي إلي يناديانني باسمي (تينا) واحتضناني بقوة.. لقد مات الاثنان وأنا صغيرة قبل أن أستطيع تذكرهما.. آنذاك فهمت أنني مُت بدوري".
الموت السريري
حدث ذلك يوم 22 أبريل/نيسان 2000، وكانت كريستينا ميتة سريريا لمدة 23 دقيقة، قبل أن يتمكن الأطباء من إعادتها إلى الحياة. هذه قصة من ملايين القصص من مختلف القارات والأجناس.. تجارب كان يُنظر إليها في الماضي على أنها من قبيل الهلوسة، قبل أن تصبح موضوعا للدراسات العلمية.
هل يتعلق الأمر بمجرد تخيلات أو هذيان، أم بشيء آخر لم يتمكن العلم بعد من فك طلاسمه؟ في هذا الصدد يرى طبيب الأعصاب الألماني فيلفريد كون الذي يبحث في الموضوع منذ نحو ربع قرن، أن "العلم يصل هنا إلى حدوده القصوى.. يمكن بالطبع أن يكون سبب ذلك نقص الأكسجين أو تأثير أدوية التنويم فتحدث تلك الهلوسة، لكن إذا كان الأمر مجرد أوهام، فكيف يمكن للمريض رؤية الأشياء وهو ميّت سريريا؟".
ويعتقد الخبراء أن 10% على الأقل من البشر عاشوا تجارب "الموت الوشيك"، ووفقا لتصريحات صحفية لخبير طب الأعصاب في المستشفى الملكي بكوبنهاغن دانيل كوندزيلا حول الموضوع، فإن "كل هؤلاء الأشخاص (العائدين من الموت) تم إنعاشهم مرة أخرى، وتمكنت أدمغتهم من البقاء على قيد الحياة دون أي ضرر كبير، وإلا لما تمكنوا من سرد ما عاشوه في تلك التجارب سنوات عديدة بعد وقوعها، وهذا يعني أنها تجارب تحدث في وقت لا يزال الدماغ يعمل فيه بشكل جيد".
الاقتراب من الموت
في العام 1892، عاش عالم الجيولوجيا السويسري ألبرت هايم -وكان متسلق جبال- تجربة "موت وشيك"، سرد تفاصيلها في الكتاب السنوي الذي يُصدره "نادي جبال الألب السويسري" تحت عنوان "ملاحظات بشأن الموت خلال السقوط".
هايم وصف بدقة متناهية الثواني التي عاشها وهو يسقط من الجبل، وكيف أعاد مشاهدة شريط حياته في زخم من المشاعر الإيجابية، رغم أنه كان على وشك فقدان حياته. والغريب أن التجربة لم تكن مرتبطة بالخوف من الموت، بل على العكس، فقد أوضح أنه كان يسبح في بحر من سلام داخلي لا يوصف.
ما عاشه هايم دفعه إلى إجراء سلسلة من المقابلات مع متسلقين آخرين لجبال الألب، حكوا له تجارب مماثلة نشرها في دراسة وصفت 30 تجربة من "تجارب الموت الوشيك". بعدها قام الطبيبان النفسيان روي كليتي وراسل نويس هايمز بترجمة تقارير هايم إلى اللغة الإنجليزية ونشرها في الولايات المتحدة، وكانت أساسا لموجة "دراسات الموت الوشيك" التي أجريت في الستينيات والسبعينيات.
تجربة "الموت الوشيك" أو "الاقتراب من الموت" (Near death Experience NDE) هي تجربة تعبر عن مجموعة من "الرؤى والأحاسيس" بعد موت سريري أو غيبوبة متقدمة. ومن بينها الإحساس "بالانفصال عن الجسد" ورؤية كاملة لشريط الحياة الماضية، ثم الدخول في "نفق يُفضي إلى ضوء ناصع والشعور بحب دائم وسلام أبدي".
ورغم أن ما يرويه "العائدون من الموت" تختلف بعض تفاصيله وتلويناته، فإن الكثير من عناصر هذا السيناريو تتكرر إما جزئيا أو كليا. لكن هناك أيضا بعض "التجارب السلبية" مرتبطة بأحاسيس الألم وعدم السعادة.
ريموند مودي فيلسوف وطبيب أميركي وأشهر الباحثين المعاصرين الذين تخصصوا في دراسة الحدود الغامضة بين الحياة والموت، لم يعش بنفسه "تجربة الموت الوشيك"، ولكنه خالط في محيطه أناسا كثيرين عاشوا تلك التجربة. آنذاك، لم تكن هناك دراسات علمية أو جامعية متخصصة في تناول الموضوع، لذلك حاول وضع منهجية دقيقة وحقق في 150 حالة كانت موضوع كتابه الشهير "الحياة بعد الحياة" (Life after Life) الذي نشره عام 1975.
وصف مودي في كتابه بدقة العناصر التي تتكرر في سرد الذين "عادوا من الموت" كالتالي: في البداية يسمع "العائدون من الموت" ضجيجا أو رنينا، بعدها ينطلقون بسرعة هائلة في نفق طويل ضيق مظلم، ليجد الشخص نفسه فجأة خارج جسده ولكن بإدراك تام لمحيطه.. بعدها تبدأ مرحلة تأقلم بطيئة لفهم واستيعاب الوضعية الجديدة مع الوعي بامتلاك جسد، لكنه مختلف عن الجسد المادي.
يتطور السيناريو لتظهر كائنات أخرى يقول "العائدون" إنها أقارب ومعارف فارقوا الحياة. كما أن هناك من يروي مشاهدته لشريط حياته منذ الولادة، ولكن دون إحساس حقيقي بمفهوم الزمن. الكثيرون يحكون اقترابهم من "حاجز رمزي" يفصل بين الحياة والموت، مع العلم أن اجتيازه يعني اللاعودة.
غالبية الذين عاشوا التجربة يحكون عن أحاسيس فياضة وشعور أبدي بالحب والسعادة لم يسبق أن عاشوه في حياتهم. "العائدون" يقولون إن تلك التجربة غيرت حياتهم رأسا على عقب وغيرت نظرتهم إلى الحياة والموت.
الميت يسمع ويفهم
ووفقا للكاتبة إينغا كاردوشينا في تقرير سابق نشره موقع "آف بي ري" الروسي، فإنه في العموم يعيش دماغ الإنسان فترة أطول بكثير (بعد توقف القلب) مما يعتقد الكثيرون.
ويبدأ نشاط الدماغ في التقلص ويحدث الانفصال تدريجيا، وتبدأ الأقسام المختلفة بالدماغ في التوقف عن العمل بشكل فردي ومتتال. لذلك، قد يبقى دماغ الإنسان على قيد الحياة على مدى عدة ساعات.
وأوردت الكاتبة أن الوعي يستمر بعد توقف قلب الإنسان عن العمل، إذ يستمر في إدراك كل ما يجري حوله، وإن لم يعد باستطاعته القيام بأي إشارة تعبر عن حياته. وفي الوقت نفسه، يؤكد العلماء أن الميت يسمع ويفهم كل ما يحيط به.
وأكدت أنه في الساعات الأخيرة من موت الدماغ، يشعر الإنسان خلال هذه المدة الوجيزة أنه سجين داخل جسده، ويسمع ويشعر بكل شيء من حوله.
وأوضحت كاردوشينا أن العديد من الدراسات أكدت أن آخر ما يموت في الدماغ هو المنطقة المتعلقة بالذكريات. وبناء عليه، يمكن تفسير سبب أن من عاشوا تجربة الموت السريري تمر أمامهم كل أحداث حياتهم.
وعلى العموم، لم تكتمل الدراسات بعدُ نظرا لأن الدماغ البشري يعتبر من أصعب الألغاز التي لم يتم حلها حتى الآن.
المصدر:
http://syriasteps.net/index.php?d=145&id=183535