بقلم :عدنان فرزات
لا أعرف إن كانت لدينا – نحن الذين نعيش في الخارج-
مشروعية الحديث عن الوضع الاقتصادي للمواطن .. ولا أدري إن كان المواطن سيتقبل
"تنظير" الذين يكتبون في مكاتب مكيفة وتنتظرهم أسفلها سيارات لتصحبهم
إلى مطاعم خمس نجوم!
ولكن الذي أعرفه جيداً هو أنه على الرغم من المشكلات الاقتصادية والضائقة المالية التي نسمع ونقرأ
عنها إلاّ أنني في كل زيارة صيفية إلى سورية أجد المتنزهات والمطاعم والمصايف تكتظ
بالناس بمن فيهم صغار الموظفين والكسبة، فمن نصدق؟ المواطن الذي عندما تسأله عن
أحواله يجيبك بقناعة الدراويش :"عايشين"، أم نصدق ما تراه أعيننا من أنهم
فعلاً "عايشين" ولكن أحلى عيشة!
اذاً هناك سرُّ لا بد من حله لاكشاف هذه المعادلة ، فحجم
الايراد لهؤلاء لا يتناسب مع حجم الإنفاق وبالتالي فثمة أمر غامض وغير مفهوم .. وليس
له إلا تفسير واحد وهو أن الموظف الصغير ورث عن جده المتوفى في البرازيل!
هذه الطبقة من صغار الكسبة الذين أترفوا فجأة ، هم شريحة
جديدة تشكلت عبر عقد من الزمن ويمكن أن نطلق عليها الطبقة "الرابعة" فهي
ليست بالطبقة الأرستقراطية ، ولا بالطبقة الوسطى، ولا بالطبقة الأدنى ..إذن فهي طبقة
طفيلية نبتت على الفساد الذي هيأته لنفسها من خلال استغلالها لوظائفها بشكل غير
مشروع . وساهم في "تسمين" هذه الطبقة غياب الرقابة الشعبية
المتمثلة أولاً بشريحة مجلس الشعب ، ثم
السلطة التنفيذية عبر التشكيلات الحكومية المتعاقبة والتي أمعن بعض وزرائها بالاستفادة
من منصبه أكبر قدر ممكن ، ولأن هؤلاء الوزراء وأعضاء مجلس الشعب وكبار المسؤولين
لا "ينزلون" إلى سوق الفساد بأرجلهم ، بل يحتاجون إلى من يؤدي هذا الدور
عنهم ولهم ،فقد تفتقت أذهانهم عن استخدام هذه الطبقة (الرابعة) كمطية أو كمنديل
للوقاية، مع الاحتفاظ لهم بحقوقهم المادية دون القانونية، فإذا وقعوا فإنهم يدفعون
الثمن بأنفسهم .
وتشعبت هذه الطبقة الانتهازية ، واتخذت أشكالاً جديدة ،
فمنها عامل البوفيه الذي يقوم بدور المدير العام في تسيير المعاملات ، ومنها سائق
التاكسي الذي يشم رائحة الغرباء ، ومنهم سماسرة العقارات ، والنادل في المطعم، وحامل
ختم المدير ، وموظف الحجوزات ، وكاشف عداد الكهرباء، ودافع عربات العجائز في
المستشفيات، وسكرتير المدير , وصديق
السكرتير الذي يعرفك عليه..وهكذا تشكلت هذه الطبقة على مدى سنوات حتى تكلست وبات
من الصعب استئصالها.
اذاً فالفساد لا
يأتي دائماً من كبار المسؤولين أو التجار الجشعين ، بل إن هناك فساداً أخطر يأتي من المواطنين
البسطاء انفسهم والذين يتحولون إلى بروليتاريا رثة وانتهازية وطفيلية يستمرئون
دماء وقوت أمثالهم من البسطاء ويستسهلون سلبهم أموالهم لكونهم لا ظهر لهم .
إن هذه "اللبنات" الصغيرة في جسد الفساد هي
التي تمسك أركانه وتقوي قواعده وتؤخر عملية التنمية و"تطفش" المستثمرين
وتثري طبقة على حساب أخرى وتنمي ثروات رعاتها من المسؤولين الكبار على حساب
الاقتصاد الوطني .
تكمن خطورة هذه الطبقة في كونها عجينة يمكن تشكيلها بسهولة
في أي اتجاه وأي غرض، إضافة الى شغفها بتعويض ما فاتها من حياة الشظف ، وهنا لا بد
من ملاحظة أنه كلما ازدادت الأوضاع الاقتصادية سوءاً ، اتسعت هذه الطبقة وتفرعت .
لذلك فإن الخطأ الذي ترتكبه خطط الإصلاح هو أنها تبدأ عملها غالباً بمكافحة الفساد
من الأعلى للأسفل ، ولكن الأجدى هو أن تتم المكافحة من الجهتين بوتيرة واحدة وبوقت
واحد ، أي قطع رأس الفساد وأرجله بآن معاً ، وبضربة واحدة ..وذلك على مبدأ مقولة
عنترة بن شداد في تفسيره لسرّ شجاعته حين قال "كنت أضرب الجبان ضربة يفر لها
قلب الشجاع"!!
مجلة المال
المصدر:
http://syriasteps.net/index.php?d=160&id=192