الغربة حلم السوريين للفرار من أزمات الوطن
الرغبة الهائلة باستصدار جوازات السفر مقرونة مع إغلاق معظم دول العالم أبوابها في وجه السوريين




رغبة السفر تصطدم بإجراءات استخراج الجوازات والتأشيرات وانتهازية شبكات الاحتيال

 

سيرياستيبس :

الرغبة الهائلة باستصدار جوازات السفر مقرونة مع إغلاق معظم وأهم دول العالم وعلى رأسها أوروبا والخليج أبوابها في وجه السوريين، وهي الوجهات المفضلة بسبب نوع المعيشة وفرص العمل وبناء المستقبل وخلافه.

تشهد مراكز الهجرة والجوازات في المحافظات السورية إقبالاً قد يصفه بعض المتابعين بالاستثنائي، نظراً إلى كثافته في مرحلة حرجة تمر بها سوريا، وما يزيد الغرابة أن ذلك الأمر جاء بعد انتصار الثورة نفسها وسقوط نظام الأسد أواخر العام الماضي.

بطبيعة الحال لا يمكن ربط هذا الإقبال الكبير بانتصار الثورة عملياً، بل يمكن تحميله على مضامين أخرى أكثر اتساعاً وشمولية وقسوة، وهي حقيقة كثيرة للغاية، ولعلها محمولة من حقبة سياسية لأخرى، لكن أبرز أسبابها الفقر والجوع والحاجة وانعدام سبل الحياة ورزوح الناس تحت آليات متشابكة من العقوبات الدولية التي تعطل مسار حياتهم على رغم وعود دولية ما كادت تنتهي برفع العقوبات عاجلاً غير آجل، لكن ذلك حصل صورياً في الأقل، فلا الحياة تغيرت، ولا المعيشة تحسنت، ولا عشرات مشاريع الاستثمارات المليارية الجديدة تمكنت من تغيير شيء من واقع الحال.

في الانتظار 

ولعل المعضلة المركبة في غرابتها تكمن في أن الرغبة الهائلة باستصدار جوازات السفر مقرونة مع إغلاق معظم وأهم دول العالم وعلى رأسها أوروبا والخليج أبوابها في وجه السوريين، وهي الوجهات المفضلة بسبب نوع المعيشة وفرص العمل وبناء المستقبل وخلافه.

لكن عدداً ممن حصلوا على جوازات سفر جديدة أو تقدموا لها، برروا لـ"اندبندنت عربية" الأمر بأن تأشيرات الدخول قد تفتح في أي لحظة وإن كان لا يزال الأمر مستبعداً، وهم لا يرغبون بطبيعة الحال حينها أن تكون بلدهم، في أتون إحدى خضاتها السياسية التي قد توقف استصدار الجوازات كما حصل من تعطل للجهات والمصالح الحكومية عقب الثورة كمثال، وكان ذلك نتيجة طبيعية للانتقال بين نظامي حكم مركزيين غير متشابهين، "لكن الحذر واجب، وجواز باليد أفضل من انتظار المجهول"، تلك كانت خلاصة حديثهم.

تذكرة عبور نحو الغد  

"هل نتحدث عن أشهر ما بعد الثورة؟ نعم، الإقبال أكثر من كثيف وغير متوقع"، هذا ما قاله موظف في الهجرة والجوازات بدمشق، رفض الإفصاح عن اسمه، لـ"اندبندنت عربية"، مؤكداً أن الناس تصطف وتتحايل وتجري مفاوضات مع أطراف وسيطة وتلجأ لمكاتب خارجية، لتحجز لها دوراً على المنصة الإلكترونية لمنح الجواز.

وتابع المتحدث "آنسات وسيدات وأمهات، وكذلك رجال وشباب وطلاب وموظفون، الجميع يريد جوازاً في جيبه، ولا شك أنه لا يريده لتكملة أوراق رسمية يحفظها في درج منزله، هم يريدون الجواز ليسافروا بعيداً، أتحدث أحياناً إلى بعض منهم، المشكلة لديهم ليست في النظام ولا كل ما يحصل، المشكلة في البلد نفسه، الناس سئمت تكرار المشهد المعيشي منذ أعوام طويلة، يريدون طوق نجاة، هجرة نحو بلاد يعملون بها بكد وتعطيهم على قدر عرق جبينهم، لا وظائف تعطيهم دولارات قليلة تنتهي مع أول عارض صحي".

ويرى الموظف أنه تمكن من لمس حال إحباط معنوي ونفسي كبيرة لدى الناس، من كل الطوائف والأعراق، حتى بات الجواز بالنسبة إليهم تذكرة عبور نحو الغد حين تشرق شمسه لا مجرد دفتر صغير فيه صورة شخصية وأوراق كثيرة متشابهة.

وكانت وزارة الداخلية السورية أخيراً خفضت رسوم الحصول على جواز سفر سوري من 220 دولاراً إلى نحو 160 دولاراً، وهو من نوع الجواز المستعجل الذي يصدر خلال أسبوع، أكثر أو أقل قليلاً، بالنسبة إلى الداخل السوري، فيما ظلت رسومه مرتفعة بالنسبة إلى الجوازات المراد تجديدها في الخارج، أما الجوازات البطيئة التي لا تكلف مبالغ تذكر فلا تزال متوقفة تماماً.

أحلام مكسرة 

أولئك الذين يستخرجون جوازات السفر بكثافة يدركون أنها فعلياً ستظل محض وثائق رسمية محلية إضافية ما لم تكن قادرة على العبور بهم نحو الخارج، وهذا هو واقع الحال اليوم، الواقع ذاته قاد لظهور شبكات وساطة وشركات فعلية ببعضها ووهمية بأكثرها، تعد أولئك السوريين بأن بإمكانها استحصال تأشيرات دخول لهم نحو بلدان عدة، ساعدها في ذلك حال مرحلية قصيرة بادرت بها دول خليجية.

 

الكويت قبل شهرين سمحت ولمدة محدودة بدخول السوريين شريطة وجود عقد عمل مسبق، وكان ذلك القرار بمثابة ثورة في ملف سفر السوريين، لكن الكويت أوقفت تلك التأشيرات بعد مدة قصيرة، والإمارات بدورها سمحت بشيء قد يكون مشابهاً وهو إمكان استقدام الإخوة، ولكنها عادت لتوقف قرارها في وقت لاحق، أما سلطنة عمان فأتاحت أشياء مشابهة لكن على قواعد استثمارية تجارية أو عقارية باهظة، مما جعل أحلام الهجرة تلك تتكسر قبل أن تنضج حتى، إلا أن بعضهم وقد يكونون قلة أحسنوا استخدام عامل الوقت بشكل مباشر وحظوا بفرصة السفر.

ضربة الحظ 

من بين أولئك الذين استطاعوا السفر كان المهندس التقني عزام زيدان، الذي تمكن من الحصول على عقد عمل في الكويت ضمن شركة يملكها صديقه، وفور إعلان خبر منح التأشيرات تقدمت الشركة هناك بطلب لاستجلابه وتم الأمر في أيام قليلة.

نجح عزام في ما فشل آلاف آخرون، وعن ذلك النجاح يقول "لا شيء، لم أفعل شيئاً، فقط الحظ والعلاقات والمعارف، كان الطريق يسيراً للغاية، ولكنه كان يسيراً في وقت السفر، أما قبل ذلك فقد انتظرت أوقاتاً ما عدت أذكرها لشدة طولها، وذلك لأني كنت أريد الكويت تحديداً وهي التي لم تستقبل سوريين منذ أعوام طوال، الآن يحسدني بعض الأصدقاء، فالتأشيرات أغلقت سريعاً، أموري هنا جيدة، راتبي ممتاز، الدينار عملة قوية عالمياً، الآن أتمكن من مساعدة أهلي مالياً وانتشالهم من القاع الذي هم به".

احتيال منظم 

وبالعودة إلى تلك الشركات التي لم تيأس من محاولة إقناع السوريين أن بإمكانها تسفيرهم، فهي تعتمد على تقديم عروض جدية بين وقت وآخر لتبدو أنها تمتاز بإمكان تقديم خدمات السفر، فهي تطرح عروضاً إلى لبنان وبعض دول جنوب شرقي آسيا وروسيا وبعض المنح الدراسية في أوروبا الشرقية، وبطبيعة الحال كلها أساساً عروض متاحة للسوريين من دون توقف، لكنها غير مرغوبة فمعظمها لا يحقق لهم طموحهم بالعمل والتطور والعيش في بيئة آمنة ومستقرة ومستديمة.

من بين تلك العروض تتسلل عروض الشركات للسفر إلى دول الخليج بمبالغ تراوح ما بين 5 و10 آلاف دولار مقابل إقامة لعامين وتأمين صحي وفحص طبي وهوية وطنية وبقية الخدمات، غالباً ما يكون الأمر غير حقيقي أو منطقي، وفي أحسن الأحوال مستنداً إلى ضربات حظ مفترضة قد تنجح في إرسال أحد إلى الخارج وإبقاء عشرات أو مئات على جدول الانتظار، وهو ذات الجدول الذي قد يعرضهم للنصب والاحتيال.

يضحك الشاب هاني عواد وهو يتحدث قائلاً "لم ألحق أن أرى المطار حتى، طردت من شركة الحجز، وذلك لأن المكتب الذي تعاملت معه ليصدر لي تأشيرة وإقامة إماراتية منحني وثائق مزورة بقيمة 6 آلاف دولار، وأعطاني شهرين مهلة سفر فأخذت وقتي على مهل لأجهز أموري، وحين اكتشفت القصة وراجعت المكتب وجدت أنه أغلق بعدما احتال على كثير من الناس، لم يكن أمامي سوى أن أتقدم بشكوى ضده وحقيقة لا أنتظر عودة المال ولا أعول كثيراً أن يلقى القبض عليه، أو عليهم كشبكة، كل ما يحز بنفسي هو أن حلمي قد تكسر بعد انتظار طويل، وبعدما بعت كل ما لدي لأسافر نحو بداية جديدة، انكسار الأحلام في سوريا يعني الموت من جديد، بعد كل الموت الذي عصف بنا خلال أعوام".

شاب آخر في حمص تعرض لعملية نصب مشابهة، دفع آلافاً عدة من الدولارات لمكتب ليصدر له تأشيرة نحو دبي، لكن المكتب كما تبين لاحقاً كان وهمياً، يقول الشاب الذي يدعى علي ناصر "تعرفت إليهم من خلال عروضهم في إحدى مجموعات مواقع التواصل الاجتماعي، لا أدري لماذا صدقتهم؟ ربما لأن الغريق يتعلق بقشة، وهذه القشة بالتحديد كسرت ظهري".

 

مقابل تلك المكاتب الوهمية ثمة مكاتب تحاول الحفاظ على اسمها في السوق، تقدم تأشيرات متنوعة، وتمتلك مقدرة تقديم الوعود باستحصال إقامات في الخليج، هي تعد بجدية، وذلك لأنها تقيم قاعدة علاقات قوية بحكم سني عملها مع شركات خليجية، تستطيع تلك الأخيرة أن تقدم عروض عمل وهمية لأشخاص سوريين يحصلون بموجبها على إمكان السفر متحايلة على السلطات أنفسها هناك، والمبلغ المتقاضى من المسافر يتم تقسيمه بين الجهتين، شركة سوريا والشركة الخليجية، وهو أمر بات رائجاً ويعمل به على نطاق واسع، لكن لسوء حظ السوريين فإن احتمالية فشله أكبر من احتمالية نجاحه، وذلك يرجع للسلطات الخليجية نفسها وقرارها النهائي في استقدام عمالة سورية.

لذا فإن تلك الشركات السورية تمنح الوعود لكنها لا تجازف بالدخول في خانة النصب والاحتيال، إذ تعمد على توقيع عقد مع الراغب بالسفر وبموجبه يدفع نصف المبلغ فوراً، والنصف الثاني عند صدور التأشيرة، وفي حال لم تصدر يستعيد أمواله، ويمكن هنا القول إن هذه الشركات تعمل بطريقة احترافية وتزيد زبائنها بطبيعة الحال، كما أنها بالعموم أيضاً تتقاضى مبالغ كبيرة جداً مقابل تلك الخدمات.

حيلة سورية 

خلال فترات ماضية كان متاحاً للأخ المقيم في الإمارات على سبيل المثال استقدام إخوته بكلفة رمزية جداً مهما بلغ عددهم، لكن السلطات لاحقاً أوقفت ذلك القرار على اعتبار أن الأخ يعتبر من "الحواشي" قانوناً، أي قريب من الدرجة الثالثة، فيما لا تزال ومن دون تردد تسمح للأولاد باستقدام الوالدين، وتسمح للزوج باستقدام زوجته وأولادهم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الزوجة.

يرى كثير من السوريين ملاذاً للحل عبر هذه المعادلة، وهي أنه ما دام يستطيع الولد جلب والديه، فإن الوالدين يستطيعون جلب أولادهم البقية بالضرورة بحكم درجة القرابة القانونية، فعمد كثير من السوريين المقيمين في الإمارات إلى استجلاب أحد والديهم، الذي بدوره لاحقاً يقدم طلب استجلاب لولده أو بقية أولاده الذين هم في سوريا، لكن هذه الطريقة اصطدمت بعائق الكلفة الكبيرة للغاية، إذ إن سفر الوالدة مثلاً مع تأمينها الصحي وفحصها الطبي وإقامتها ومن ثم تقديم طلب استقدام لولدها مع بقية الإجراءات سيرفع الكلف العامة في هذه الرحلة لما بين 10 و15 ألف دولار أميركي، وهو رقم مهول للسوريين، وسيستغرق أشهراً، ومع ذلك اعتمد بعض المقتدرين مالياً هذا الأسلوب، واستبعده كثر على أمل افتتاح التأشيرات غير المكلفة من جديد.

الحل الأخير 

تعيش ميادة نور مع زوجها وأولادها منذ سنين في دبي، تعمل طبيبة هناك وكذلك زوجها، يعيشون حياة مرتاحة على حد وصفها، وتلقي بلوم كبير على أخيها الذي ظل يتمهل في اتخاذ قرار الهجرة حتى ما عاد ممكناً استقدامه كأخ، أخوها الذي يعمل أستاذاً في إحدى الجامعات الخاصة، ولكن إصراراً عائلياً مجتمعاً كان ينص على ضرورة إخراجه لكثير من الأسباب التي تفضل الاحتفاظ بها لنفسها كما تشير، ولتتمكن من إخراجه أخيراً اعتمدت حيلة استقدام والدها.

 

 

تقول نور "خلال أيام صدرت موافقة قدوم والدي، لكن إجراءات الإقامة والهوية وبقية الأوراق تستغرق وقتاً، وبمجرد أن ننتهي منها سيتمكن هو بدوره من تقديم طلب لمجيء أخي، كلفتنا القصة كثيراً جداً، ولكنها السبيل الوحيد المتاح اليوم بعيداً من الشركات الموجودة هنا والتي قد تقدم كثيراً من الوعود الكاذبة في هذا السياق".

توازنات دقيقة 

مع دخول ملف السفر إلى الخارج السوق السوداء وخضوعه لسماسرة وعمليات نصب واحتيال كثيرة أسفرت عن وقوع مئات العائلات والأفراد كضحايا وربما أكثر، كان لا بد من تفعيل دور رقابي أكثر حزماً من قبل السلطات المتخصصة السورية في قطاعي السياحة والهجرة التي بدأت أخيراً تنتبه أكثر وتولي عناية أشد لهذا الملف تزامناً مع الرقابة الدولية على ملف الهجرة غير القانونية.

وذلك في صلبه ينعكس على المهاجر بشقين أساسيين، الأول عدم وقوعه ضحية عملية احتيال دولية منظمة وإن كان منطلقها محلياً في الغالب، والثاني هو البت أساساً بموضوع المهاجرين السوريين في الدول الأوروبية التي تبحث بعضها سبل إعادة أعداد من السوريين إلى بلادهم مع استقرار الأوضاع، وهو موضوع شائك ومعقد وبلا جدول زمني واضح لأسباب ترتبط بترنحه ما بين التردد برفع العقوبات الفعلي عن سوريا من جهة، وتنامي رغبة السوريين الآن للهجرة من جهة ثانية.

إضافة إلى عدم تمكن العائدين ولو على شكل زيارات قبل اتخاذ قرار الاستقرار من تحمل الأوضاع، مما يجعل الأمر بمجمله خاضعاً لتوازنات دقيقة قد تكون هذه المرة الأولى فيها التي لا يلعب العامل الطائفي تحت جنح الصراع الدور الأبرز فيها، أمام تشاركية القرار الجماعي لمن يريد الرحيل والبدء من جديد في حياة مستقرة بمعزل عن الأهوال التي قادت لأربع هجرات كبرى خلال الـ15 عاماً الماضية، فثلاثة منها كانت في عهد بشار، والرابعة في العهد الجديد، وهي المحمولة قبل كل شيء على الدوافع الاقتصادية والإنسانية.

اندبندنت عربية



المصدر:
http://syriasteps.net/index.php?d=110&id=202675

Copyright © 2006 Syria Steps, All rights reserved - Powered by Platinum Inc