طبيب يستجدي حقوقه...
16/09/2009



بقلم آرا  سوفاليان

لم تكن زيارته مقررة ولكنني دخلت عيادته بسبب الصداقة التي تربطني به والتي تعود الى بدايات العام 1986 عندما بدأت بالدعاية الطبية والتوزيع لمنتجات مواد طب الأسنان، وكان من نفس طينتي فأحببته.

كان يجلس خلف طاولته ونظراته شاردة بلا هدف ويترك مريضه الوحيد وحيداً على كرسي المعالجة وكأنه لا يريد العمل، فشعرت أن هناك شيء مختلف هذه المرة قلت ربما لأنه صائم، ثم تراجعت لأنه ليس من هذه الطينة فأنا أعرفه حق المعرفة ومنذ زمن بعيد، قلت في نفسي لن تضيرني برودة اللقاء هذه المرة لأن فضله سابق.

وانتظرت وبدا غير مكترث فقلت له : ليس من عادتك فقال: نعم ولكن ليس بيدي قلت: هل تشكو من شيء قال: نعم أشكو من الظلم.  قلت:  هل تشعر بالرغبة في أن تفضفض قال: نعم  فأنا على وشك الانفجار، قلت: تحدث فأنا مستمع جيد .

 قال: في بنسلفانيا اجتمعت بطبيب فلسطيني جاء مثلي لإتباع دورة زرع وكان الزرع في البدايات وكنا في حافلة وكان يجلس الى جانبي، وتوقفت الحافلة لأن هناك سرب من البط خرج من محميته متنزهاً واستعمل سيراً على الأقدام مع المواليد الجدد، الطريق المخصص لحافلتنا التي كانت تقلنا لحضور العملي بعد زيارة المصنع وانتظرنا طويلاً  حتى ابتعد السرب المتنزه فتابعنا طريقنا وعلمنا أن القانون الاتحادي الفيدرالي يفرض عقوبات صارمة على من يتعدى أو يضايق هذا السرب المتمتع بحماية الدولة في محميته الطبيعية وما جاورها ... فنظر صديقي الفلسطيني بإتجاهي وقال : دكتور أنا لي أمنية في هذه اللحظة كطبيب فلسطيني أو كانسان فلسطيني هل تعلم ما هي؟ فقلت: لا ، قال: أتمنى أن أتحول الى بطة في هذا السرب بالذات لأن أي بطة في هذا السرب تتمتع بالحماية أكثر من أي فلسطيني على وجه البسيطة... فقلت له: نعم ولكنك لست فلسطينياً !

قال: في الماضي كانت الذئاب هي الرعيان، وكانت تتقاسم قطعان الماشية، فيختص كل ذئب بقطيع، وكان الذئب يسهر على أفراد القطيع فيسرح بهم الى المراعي ليأكلوا ويشبعوا ويكتنز لحمهم ويقوى عودهم ويسرح بهم الى الينابيع ليشربوا الماء الزلال ... ويتركهم ليتناسلوا فيكبر عددهم ... ثم يذهب بأحدهم فيقتات بلحمه هو ومن معه ... وكان عمله هذا نبيلاً بلا شك؟ قلت: عن أي عمل نبيل تتحدث إذا كان المصير بين أنياب الذئاب؟ قال: نبيلاً بلا شك لأن الذئب كان يوفر المرعى والماء فيمنح القطيع كل شيء ، ويقتات فيما بعد على جزء من هذا القطيع يقتات على شاة أو كبش من هذا القطيع  ليبقى ويقوم بأود نفسه ومن معه... قلت: والسؤال هو ؟ قال: والسؤال هو: ماذا لو تم منع المرعى والماء وبقيت مسألة الأقوات بمعنى أن يقتات الراعي على القطيع دون أن يقدم شيء لهذا القطيع، بل ويمعن في التضييق عليه... قلت: ماذا ... قال: نصل الى ما وصلت أنا اليه اليوم.

قلت: لا زلت في غيّر بر الأمان فأنا لم أجد الرابط بعد! قال: هل تذكر تلك الأيام... عندما كنت تدخل العيادة فلا تجد لك مكاناً تجلس فيه؟ قلت : نعم... قال: هل تذكر وعاء التمر الفاخر الذي كان يتوسط طاولتي في رمضان؟ قلت: نعم، قال: وهل تذكر مواسم الصيف والزائرين في الصيف والأعمال التي كانت تذهب بالجملة الى مخابر متعددة... قلت: نعم ... قال: هل تذكر المخابر التي كنت أعمل معها ... قلت: نعم ... قال : هل تذكر كمية المواد التي كنت أستجرها من المستودعات التي كنت تعمل أنت بها؟  قلت: نعم ... قال: هل تذكر عندما كنت أطلب منك أن تسدد بالنيابة عني وأعطيك عملة غريبة... قلت: نعم... قال: هل تذكر عندما كنت تتجول بسيارتك في شوارع دمشق فتجد سيارة غريبة قبلك وأخرى مثلها بعدك ... قلت : نعم... قال: والآن العيادة فارغة والأسعار ضرب عشرة، ولا أحد يهتم لك في حين يفترض أن  يهتم الراعي بالخراف لتسمينها قبل أكلها بدلاً من تقييدها وحرمانها من الطعام  والشراب وتركها لتتدبر أمرها بين التخبط والعشوائية ومع المستفيدين والمنتفعين من قوانيننا الجائرة ومع أناس بيدهم السماح والمنع وبيدهم القانون وتفسير القانون ومطمطة القانون أو خصورته حسب مفاهيمهم  وتمرير زيد وتوقيف مصالح عبيد وعدم التعرض لزيد بتوصية من دريد وبمعرفة عبيد، وتفصيل القانون بحسب مقاسات خصورهم هم دون أن يقف في وجههم أحد... قلت: فهمت ربع القصد حتى الآن ... قال: وبالتالي فإن نفسي تتوق لبطة بنسيلفانيا وسربها المبارك الذي لا يطاله أحد.

وحتى البقرة ... فيجب رعايتها وتقديم المأكل والمشرب والطبابة لها وفي هولندا يقدمون لها الموسيقى ليدر حليبها أما هنا فلا يهمهم إلاَّ إعتصار أثدائها حتى آخر نقطة دم!

كانت أقساط مدارس الأولاد ومعيشتهم لا تشكل أي عبئ فالشغل موجود والخير موجود والحمد لله... أما اليوم فلقد كبروا ... ولم يفلح احد منهم في إدراك المعدلات الفلكية لدخول الكلِّية التي درس فيها والدهم ولا الكلِّيات القريبة منها ... فتم رمينا في آتون الموازي ثم في الجامعات الخاصة وهذا يحتاج لبحر من المال فبعنا البيت في المصيف وبعنا حصتنا في الأرض التي تركها الوالد وباعت أمهم حصتها في تركة والدها... وأمتدت يدنا الى المبلغ الذي تركناه لكبرتنا ونفذ ما معنا وبقيت سيارتي التي كانت تساوي المليون قبل إغراق البلد بالسيارات فتحول سعرها الى دريهمات بقدرة قادر فقلت في نفسي... والله العظيم افضِّل أن أذهب بها الى الصحراء وأحرقها هناك على أن أبيعها بهذا السعر... وفي العام الماضي إعترضت على التكليف الضريبي فتم ضرب المبلغ بأربعة... وشكونا أمرنا لله... أما فاتورة الكهرباء فهي تقبع خجلى ومتوارية في هذا الدرج... ولم يتيسر لي تأمين مبلغها التجاري المروع حتى اليوم مكتفياً بحمل لقب مبدد الثروة الوطنية وبجدارة لأن كافة الأجهزة الموجودة في عيادتي ترفض العمل على الحطب وتحتاج للكهرباء؟... واليوم نزلت القشة التي كسرت ظهر البعير... لقد إقتلعوا (القارمة) من مكانها وللمرة الثالثة والأخيرة مع إنذار حيث لم تعد تنفع كل مساعي الخير... وقد حدث ذلك لأول مرة في بداية موسم الصيف عندما تم تحديث (القارمة) وتجديدها وتم تزويدها بمصابيح إضافية لعلها تنجح في لفت إنتباه سيارة عربية وصلت الى المكان عن طريق الخطأ... فتم إقتلاعها بمنتهى القسوة فتحطمت واجهتها المطبوعة على الكومبيوتر وتخلخع كادرها المصنوع من الستانلس وتحطمت بعض مصابيح النيون التي تقبع في بطنها... وقالوا لي عليك الاكتفاء بالـ (بسكوته) والبسكوته هذه هي قارمة صغيرة توضع على مدخل البناء طولها لا يتعدى الشبر عليها اسم الطبيب باللون الكحلي على أرضية من البلاستيك الأبيض وهي بمتناول يد الأطفال الذين اقتلعوا أجزائها بهدف الاستعمال في شيء مفيد!

سألت الطبيب: هل يطبق هذا الاجراء ضدك بالذات أم أن الموضوع يتعلق بجميع الأطباء... فقال وهو يهز رأسه بألم وحسرة وخرجت من فمه زفرة طويلة وقال: لن أجيبك على هذا السؤال لأنك ستعرف الجواب لوحدك بعد خروجك من العيادة... فتذكرت الخزانة الخشب في إحدى مسرحيات دريد لحام والتي كان يحاول بيعها وعندما نجح في العثور على زبون ليشتريها إكتشف الزبون أنها خفيفة لأنها بلا ظهر فرفض شرائها فقال له دريد لحام لو كان لهذه الخزانة ظهر لما استطعت أنت أوغيرك رفعها من مكانها.

نحن نحاول تقليد أوروبا... وكل أطباء أوروبا بلا (قارمات) بسبب عدم الحاجة لها... حيث يكتفى بكتابة اسم الطبيب واختصاصة على قطعة نحاس توضع فوق باب العيادة وهذا كاف وزيادة... لأن الطبيب في أوروبا لا يبحث عن المريض... فشركات التأمين تؤمِّن للطبيب مرضاه... وهناك تقسيم وتوزيع صحيح للعيادات حسب المناطق وحسب عدد القاطنين وهذا يحدد المسافة التي تفصل العيادة عن العيادة... أما في سوريا فلقد تم إحصاء 62 عيادة في بناية تجارية واحدة في سابقة لم يفطن إليها واضعوا كتاب غينيس للأرقام القياسية، أما مسألة التأمين الصحي للمواطن وشركات التأمين المعنية بتقديم الطبابة والدواء ففي علم الغيب حتى اللحظة الحالية ويبدو أن الجدوى الاقتصادية للمشروع قريبة من الصفر بعكس الجدوى الاقتصادية لمشاريع استنفاذ الكتلة النقدية المتداولة عن طريق ملئ الأرصفة والشوارع بالسيارات من كل حدب وصوب لإرواء ظاهرة عطش تعود لنصف قرن مضى .

وأمام هذا الواقع المتمثل في كبر عدد الأطباء وكثرة العيادات فيجب أن يعلن الطبيب عن نفسه وإختصاصه بقارمة... ويجب مساعدته في الحصول على حقوقه كاملة قبل مطالبته بكل ما يطالب به والمبدأ اقتصادي بحت ... فلماذا يسمح بالاعلان عن وصول دفعة جديدة من سيارات كذا العائدة للتاجر فلان في مليون مكان ويسمح بطلس كل لوحات الإعلان الفضائية والليزرية والدورانية والجدارية الثابته منها والمتحركة والتي يقارب بعضها حجم واجهة بناء... ونضنّ على طبيب بقارمة... كيف نضرب تكليفه الضريبي بمعامل الضرب 4 وفاتورة كهرباء عيادته التي يرتزق منها بمعامل الضرب 10 ونطلق عليه صفة (مبدد الثروة الوطنية) ونأتي فيما بعد لنسحب منه متحصلاته حتى آخر قرش؟

نفذوا القانون المطبق في اوروبا ولكن بعد أن تتوازن المقومات الناظمة لنا مع تلك الناظمة لأوروبا ... وحتى يتحول هذا السراب إلى حقيقة ... أتركوا الناس في همومهم ... اتركوهم ليكدحوا ليل نهار لتأمين أقساط جامعات أبنائهم وتأمين الضرائب المضروبة بمعامل الضرب 4 وتأمين قيمة فواتير الكهرباء المضروبة بمعامل الضرب 10 اتركوا للأطباء قارماتهم  لعلها تنجح ـ لعلها تنجح ـ في لفت إنتباه سيارة عربية وصلت إلى المكان عن طريق الخطأ.

خذوا ضريبة مضاعفة ومن اجل العدالة ضعوا مواصفة معينة وضريبة معلومة لمن يتجاوز المواصفة الموضوعة... أما أن يترك بائع فلافل ليضع قارمة على شكل قوس النصر بمساحة تزيد كثيراً عن مساحة دكانه وأن نركض خلف طبيب لإقتلاع قارمته للمرة الثالثة مع منحه إنذار فهذا ليس عين الصواب ولا يمت للصواب في شيء.

قال لي: ماذا تتوقع أن أشتري منك ... قلت له: يشتري الإنسان ما يحتاج إليه وأنت تم وضعك في موقف من لا يحتاج لشيء غير الدعاء!!!

وانا لديَّ شيء آخر غير الدعاء وهو شيء يحتاج له كل أبناء الوطن وهو برسم الشرفاء... فقال لي مستغرباً... وما هو ... قلت: نقل هذه المعاناة بالقلم لعلها تصل الى الشرفاء ... قال: مقال آخر لك يضاف الى جملة مقالاتك المصنفة تحت عنوان (فشة خلق)... قلت : نعم وهو نفس الطريق الذي سلكه غيرنا فوصلوا الى ما وصلوا اليه ... فقال: إفعل ولكن لا تذكر إسمي ... قلت : سأفعل ولن أذكر أسمك... فهناك أشياء كثيرة تغيرت في البلد وعليك أن تشرب فنجان قهوتك الصباحي برفقة أحد المواقع الوطنية لتعرف أن ايديولوجية الخوف صارت من المنسيات

وغادرت عيادته وعيناي معلقتان على القارمات قبل وبعد فوجدتها كلها في أمكنتها المعتادة بإستثناء قارمته وعدت لأرى مدخل بنايته ومكان القارمة التي تم إقتلاعها من مكانها  وعرفت قيمة الأمنية مدار الحديث ... (بطة بنسلفانيا وسربها المبارك الذي لا يطاله أحد).

وكان عليَّ العودة الى البيت خالي الوفاض ومواجهة رئيسي في الشركة التي أعمل بها لينظر في عيناي نظرة نارية لأني لم أنجح في تسويق أو بيع أي شيء على الاطلاق... على الرغم من أنه هو نفسه غير مقتنع بالذي يفعله ولا بردود فعله ولا نظراته النارية ... فنحن نفعل المستحيل لفعل شيء ونرسل الدعايات والعروض وننفخ حتى الآن في قربة مثقوبة ثقبها غيرنا بسبب قلة الحيلة والدراية.



المصدر:
http://syriasteps.net/index.php?d=160&id=270

Copyright © 2006 Syria Steps, All rights reserved - Powered by Platinum Inc